الحق والباطل: صراع أبدي

الحق والباطل في ميزان الكلمة والضمير

يُعدّ الحقّ من المفاهيم الراسخة في الضمير الإنساني، وهو قِوام العدل، وأساس القيم، وميزان الأخلاق، ومبتغى الضمائر الحرة. أما الباطل، فهو نقيضه المباشر، ومصدر الظلم، ومستنقع الزيف، وأداة الطغيان والتضليل. ومنذ الأزل، وقف الإنسان أمام هذين المفهومين متأرجحاً بين مدّ الحقّ وجزر الباطل، بين صوت الضمير وصراخ المصالح، بين كلمة صدق وكلمة زور.

الحديث عن الحق والباطل ليس مجرد تحليل لغوي أو فلسفي، بل هو مسار متجذر في التاريخ الإنساني، ومرتبط بسير الحضارات، وسقوطها، وبنهضة الأمم وانحطاطها. وفي هذا السياق، نسج المفكرون والفلاسفة والعلماء والشعراء والمصلحون أقوالاً خالدة تلخّص جوهر الصراع بين هذين القطبين المتناقضين، وتؤكد على قدسية الحقّ وخطورة الباطل، خاصة عندما يُتخذ الباطل لباس الحق لخداع الناس والتسلط عليهم.

الحق في جوهره وأبعاده الأخلاقية

الحق ليس مجرد فكرة مجردة أو دعوى نظرية، بل هو منظومة متكاملة من المبادئ التي تصون كرامة الإنسان وتضمن العدالة الاجتماعية وتؤسس لحياة مستقرة. يقول الفيلسوف “أفلاطون”: “العدالة هي إعطاء كل ذي حق حقه”، وهي عبارة تُختزل فيها قيمة الحق بوصفه تجسيداً للعدالة. ولأن الحق ملازم للعدل، فلا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.

وقد ارتبط مفهوم الحق بالقيم العليا في الفكر الإنساني، مثل الحرية والكرامة والصدق، فلا حرية بدون حق، ولا كرامة بغير اعتراف بالحقوق، ولا صدق إلا في قول الحق. قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: “الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله”. وهي من أبلغ العبارات في التنبيه على أن الحق لا يجب أن يُقاس بالأشخاص، بل بالعقل والقيم الثابتة، ذلك لأن النفوس قد تميل إلى أشخاص ذوي سلطة أو نفوذ فيقعون في فخ تبرير الباطل.

الباطل في جذوره ووسائله

الباطل لا يعيش إلا في غياب الوعي وفي ظل الجهل والتضليل. هو كائن طفيلي يستمد قوته من ضعف الآخرين، ويتغذى على الخوف والجهل والمصالح الضيقة. يقول الشاعر العربي الكبير المتنبي: “إذا رأيت نيوب الليث بارزةً، فلا تظننّ أن الليث يبتسم”، وهي إشارة إلى أن الباطل قد يلبس قناع البراءة لكنه يحمل في داخله مخالب الظلم والعدوان.

وفي عالم يتقاطع فيه الإعلام مع السياسة والاقتصاد مع السلطة، أضحى الباطل يُسوّق بأدوات معقدة، ويُجمّل بلغة ناعمة، حتى يخال البعض أنه الحقّ ذاته. ولذلك، فإن من أعظم الأقوال التي ترسّخ قيمة التمييز بين الحق والباطل قول الإمام الشافعي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”. ففي هذا القول ترسيخ لمبدأ الانفتاح على الحوار، واعتراف بقابلية الإنسان للخطأ، ما يجنّبه الوقوع في تبرير الباطل بدعوى الصواب المطلق.

أقوال مأثورة عن الحق

إن في الموروث الإنساني والديني والأدبي الكثير من الأقوال التي تضيء طريق الباحثين عن الحق وتنير ظلمات الجهل والتضليل. ومن أبرز هذه الأقوال:

هذه الأقوال، وإن اختلفت لغاتها وأزمنتها، فإنها تتفق في تعظيم قيمة الحق وتحذير الناس من الانخداع بالباطل المُزيّن.

الحق والباطل في النصوص الدينية

في القرآن الكريم والسنة النبوية، نجد حضوراً قوياً لمفهومي الحق والباطل، بل إن القرآن ذاته وصف بأنه “الحق”، حيث قال الله تعالى: ﴿بِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ [الإسراء: 105]. كما وردت آيات كثيرة تدعو إلى الوقوف مع الحق وتحذر من الركون إلى الباطل. من هذه الآيات قوله تعالى:

﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81].

وهذه الآية تؤكد على الطبيعة الزائلة للباطل، فهو هش بطبيعته، لا يصمد أمام ضوء الحقيقة. ومما ورد في السنة النبوية قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم:

“انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً،” قالوا: يا رسول الله، ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصره.” [رواه البخاري].

هذا الحديث الشريف يؤكد على دور الإنسان في الوقوف ضد الباطل حتى لو صدر من أقرب الناس إليه.

مواقف تاريخية خالدة في نصرة الحق

من أشهر المواقف التاريخية التي خلدها التاريخ موقف الخليفة أبو بكر الصديق عندما قال في أول خطبة له بعد البيعة: “أطيعوني ما أطعتُ الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.”، وهي مقولة تضع معيار الطاعة في الحق، وترفض الولاء الأعمى للسلطة.

ومن المواقف المشرّفة أيضاً، موقف الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه، حين واجه طغيان يزيد بن معاوية، ورفض مبايعته رغم التهديد والموت، قائلاً: “إني لم أخرج أشِراً ولا بطِراً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.” لقد أصبحت كربلاء رمزاً خالداً للوقوف في وجه الباطل رغم قساوته.

الباطل في الأدب والفن

لم يغفل الأدب عن توثيق صراع الحق والباطل، بل جعل منه مادته الأساسية، وأنتج من خلاله رموزاً خالدة. ففي مسرحية “هاملت” لشكسبير، يعاني البطل من صراع داخلي بين كشف الحق والسكوت عن جريمة عمه الذي قتل والده، ما يدل على أن الحق ليس دائماً سهلاً، بل يتطلب تضحية ومواجهة.

وفي الشعر العربي، قال الشاعر أبو الطيب المتنبي:

“إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ** وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا”

في إشارة إلى أن أهل الباطل لا يستحقون الإكرام لأنهم لا يردّونه بوفاء، بل يستغلونه في طغيانهم.

أثر الباطل في المجتمعات

المجتمعات التي تهيمن فيها ثقافة الباطل تفقد بوصلتها الأخلاقية، وينتشر فيها الظلم، وتختل معايير العدالة. فتشويه الحقائق، ونشر الأكاذيب، وتبرير الفساد، كلها وجوه للباطل في صورته المعاصرة. وقد عبّر المفكر الفرنسي فولتير عن هذه الفكرة بقوله: “الكذب يدور حول الأرض بينما الحقيقة ما تزال تربط حذاءها.”

فحين يُسمح للباطل بالتمدد، يفسد الضمير العام، وتصبح القيم مجرّد شعارات فارغة، ويعمّ الصمت المريب، وتُخنق الأصوات الحرة، وتغدو المجتمعات مرتعاً للديكتاتورية والتخلف.

مسؤولية الفرد في قول الحق

من أكبر التحديات التي تواجه الإنسان هي مسؤولية قول الحق، خاصة في بيئات يسود فيها الباطل. فكم من شخصٍ عرف الحقيقة لكنه خاف أن يقولها، فساهم بصمته في ترسيخ الظلم. وقد قيل: “الساكت عن الحق شيطان أخرس”. وهذه العبارة تحمل رسالة قوية بأن الصمت في موضع الدفاع عن الحق هو تواطؤ مع الباطل.

الحق يحتاج إلى شجاعة، وفكر حر، وضمير حي. ولا تكتمل إنسانية الإنسان إلا بموقفه الأخلاقي من الظلم والباطل.

خلاصة فكرية

إن الصراع بين الحق والباطل ليس صراعاً ظرفياً أو عرضياً، بل هو صراع دائم ومتجدد، يرتبط بجوهر الوجود الإنساني نفسه. وكل أمة أو مجتمع أو فرد يختار موقعه بين هذين القطبين، إما أن يكون جندياً للحق، أو أداة للباطل، أو متفرجاً يكتفي بالحياد، في وقت لا يصلح فيه الحياد.

وفي النهاية، لا يملك الباطل أن يصمد أمام نور الحقيقة، مهما حاول التمويه والتزوير. لأن الحقّ، بطبيعته، ناصع، عادل، خالد، يرفع الأمم، ويحمي الكرامة، ويحفظ التوازن، ويمنح الحياة معناها الحقيقي.

المراجع:

1. القرآن الكريم – سورة الإسراء

2. نهج البلاغة – خطب الإمام علي بن أبي طالب