الجمعة السوداء أو البيضاء: يوم التخفيضات العالمي وأبعاده الاقتصادية والثقافية
تُعد الجمعة السوداء، أو ما يُعرف في العالم العربي بـ”الجمعة البيضاء”، من أبرز الأحداث التجارية العالمية التي تشهدها الأسواق في كل عام. يعود هذا اليوم إلى تقليد أمريكي نشأ في خمسينيات القرن الماضي، وسرعان ما تحوّل إلى ظاهرة اقتصادية وثقافية تتجاوز الحدود الجغرافية لتشمل معظم دول العالم، وتُحدث حراكاً واسعاً في عالم التسوق والمبيعات. ومع انتقال الظاهرة إلى الدول العربية، تغيّرت التسمية من “الجمعة السوداء” إلى “الجمعة البيضاء” لأسباب ثقافية ودينية تتعلق بدلالة اللون الأسود، ما يعكس تكيّف الحدث مع البُنى الاجتماعية للمجتمعات المختلفة.
تتميّز هذه المناسبة بعروض وتخفيضات غير مسبوقة على مختلف المنتجات، من الأجهزة الإلكترونية والملابس إلى الأدوات المنزلية ومستحضرات التجميل. ومع ذلك، فإن تأثير الجمعة السوداء أو البيضاء لا يقتصر فقط على المبيعات، بل يمتد ليشمل الجوانب النفسية والسلوكية للمستهلكين، والآثار الاقتصادية على الشركات الصغيرة والكبيرة، وأثر التسويق الرقمي والإعلام الاجتماعي على زيادة الزخم حول الحدث.
الجذور التاريخية للجمعة السوداء
نشأ مصطلح “الجمعة السوداء” في الولايات المتحدة الأميركية في خمسينيات القرن العشرين، وتحديداً في مدينة فيلادلفيا. في ذلك الوقت، استخدمته الشرطة المحلية لوصف الفوضى المرورية التي أعقبت عيد الشكر، حيث اجتمع عدد هائل من المتسوقين في شوارع المدينة، متسبّبين في ازدحام خانق وحوادث متعددة. لاحقاً، تحوّل المفهوم إلى شيء أكثر إيجابية عندما استخدمه التجّار للإشارة إلى تحقيق أرباح ضخمة بعد فترة ركود نسبي في الأسواق.
وفي عالم المحاسبة، كانت الشركات تُسجل خسائرها باللون الأحمر في الدفاتر، بينما يتم تسجيل الأرباح باللون الأسود. وبما أن يوم الجمعة الذي يلي عيد الشكر كان يشهد زيادة غير مسبوقة في المبيعات، فقد أصبح اليوم الذي “تتحول فيه الحسابات من الأحمر إلى الأسود”، ومن هنا جاء المعنى الإيجابي لعبارة “الجمعة السوداء”.
الانتشار العالمي والتحوّل الثقافي إلى “الجمعة البيضاء”
مع تعولم الاقتصاد واعتماد أنظمة التجارة الإلكترونية، انتقلت هذه الظاهرة من الولايات المتحدة إلى أوروبا، ثم إلى بقية العالم، بما في ذلك الدول العربية. إلا أن تسمية “الجمعة السوداء” لم تلقَ ترحيباً في العديد من المجتمعات الإسلامية، نظراً لارتباط اللون الأسود بالحزن أو المصائب في الوعي الجمعي. ولذلك، ابتكر المسوّقون العرب مصطلح “الجمعة البيضاء” ليعكس مفهوماً أكثر إيجابية وسعادة، ويجذب المستهلكين للمشاركة في الحدث دون حواجز نفسية أو ثقافية.
وقد تبنّت العديد من المتاجر الإلكترونية والمراكز التجارية في الشرق الأوسط هذه التسمية، وبدأت بإطلاق عروضها في هذا اليوم، بل وامتد الأمر إلى تخصيص “شهر كامل من التخفيضات” تحت مسمى “موسم الجمعة البيضاء” أو “نوفمبر الأبيض”، مما يدل على نجاح التسمية الجديدة في التكيّف مع البيئة الثقافية والاجتماعية للمنطقة.
التحول الرقمي والجمعة السوداء
يُعد التحول الرقمي عاملاً حاسماً في توسّع وانتشار ظاهرة الجمعة السوداء. فمع تطوّر منصات التجارة الإلكترونية، أصبح بإمكان المستهلكين الوصول إلى آلاف المنتجات بنقرة واحدة من هواتفهم الذكية. الشركات مثل أمازون وسوق دوت كوم (التي أصبحت لاحقًا أمازون الشرق الأوسط) ونون ودروبديز وغيرها تستغل هذا اليوم لتقديم عروض استثنائية، وتستخدم الحملات الدعائية المكثفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني لجذب الانتباه.
وقد مكّن هذا التحوّل الرقمي الشركات من التوسّع إلى أسواق جديدة بسرعة، مستفيدة من البيانات الضخمة التي توفرها التكنولوجيا لفهم سلوك المستهلكين وتصميم العروض بما يتناسب مع تفضيلاتهم. كما ساهم التسويق عبر المؤثرين والمدونين الرقميين في تعزيز جاذبية الجمعة البيضاء، خصوصاً لدى فئة الشباب الذين يثقون بالتوصيات الرقمية أكثر من الإعلانات التقليدية.
الأثر الاقتصادي للجمعة السوداء
تشير الإحصاءات إلى أن الجمعة السوداء تُعدّ من أكثر الأيام التجارية نشاطاً في العالم. ففي الولايات المتحدة وحدها، يُنفق المستهلكون أكثر من 9 مليارات دولار خلال هذا اليوم، وقد يصل المبلغ إلى عشرات المليارات إذا ما احتُسب الإنفاق طوال عطلة نهاية الأسبوع التي تتضمّن “الجمعة السوداء” و”الإثنين الإلكتروني” (Cyber Monday).
هذا الإنفاق الضخم يعزز مبيعات الشركات ويُساعد على تصفية المخزون، كما ينعش الاقتصاد، خصوصاً في فترة ما قبل نهاية العام. لكنه في المقابل، يُحدث ضغطاً كبيراً على سلاسل الإمداد، ويؤدي إلى زيادة استهلاك الطاقة والموارد، مما يثير تساؤلات بيئية وأخلاقية حول الاستهلاك المفرط.
ومن الجدير بالذكر أن الشركات الصغيرة قد تجد صعوبة في منافسة خصومات الشركات الكبرى، ما يؤدي أحياناً إلى تهميشها أو دفعها لتقديم تخفيضات تُقلّل من هامش أرباحها. لهذا السبب، ظهر توجه عالمي لدعم هذه الشركات من خلال تخصيص يوم يُعرف بـ”السبت الصغير” (Small Business Saturday)، يتم فيه التشجيع على التسوق من المتاجر المحلية الصغيرة.
الجوانب النفسية والسلوكية للمستهلكين
تُلقي الجمعة السوداء الضوء على ظواهر نفسية معقّدة تتعلّق بسلوك المستهلك. فالعديد من الدراسات تشير إلى أن العروض والتخفيضات تؤدي إلى تحفيز مناطق معينة في الدماغ مرتبطة بالمكافأة، مما يجعل الأشخاص يشعرون بالنشوة عند الشراء، حتى وإن لم يكونوا بحاجة فعلية للمنتج.
وقد يحدث ما يُعرف بـ”شراء الذعر” أو “الشراء التلقائي”، حيث يُقدم المستهلك على شراء كميات كبيرة من السلع بدافع الخوف من فوات الفرصة. كما قد يشعر البعض بـ”ندم الشراء” بعد انتهاء العروض، خصوصاً إذا اكتشفوا أن كثيراً من المنتجات لم يكونوا بحاجة لها.
تقوم الشركات بتصميم استراتيجيات تسويق تعتمد على هذه العوامل النفسية، مثل استخدام العد التنازلي للعرض، أو تحديد كمية محدودة للسلع، مما يعزز الإحساس بالعجلة والحاجة للشراء الفوري. هذه الأساليب قد تكون فعالة من منظور تسويقي، لكنها قد تُخلّف آثاراً سلبية على الوعي الاستهلاكي لدى الأفراد، وتزيد من معدلات التديّن المالي والاستهلاك المفرط.
الفرق بين الجمعة السوداء والإثنين الإلكتروني
بينما تُركّز الجمعة السوداء تقليديًا على المتاجر الفعلية والتجارة الإلكترونية، فقد ظهر ما يُعرف بـ”الإثنين الإلكتروني” في عام 2005 كمكمل لهذا اليوم، يختصّ بالتسوق عبر الإنترنت فقط. ويُقام هذا اليوم في أول يوم اثنين بعد عيد الشكر في الولايات المتحدة، ويتميز بعروض كبيرة على الأجهزة الإلكترونية والتقنيات الحديثة.
وقد تداخل اليومان تدريجيًا، وبدأت المتاجر الإلكترونية في إطلاق العروض منذ بداية شهر نوفمبر، مما أدى إلى انتشار مفهوم “أسبوع العروض” أو “شهر التخفيضات”، وقلّل من حصرية العروض في يوم معين.
انتقادات بيئية وأخلاقية للجمعة السوداء
رغم الجوانب الاقتصادية الإيجابية للجمعة السوداء، إلا أن الكثير من الأصوات بدأت ترتفع ضدها، خاصة من نشطاء البيئة والتنمية المستدامة. فالزيادة الهائلة في الطلب على المنتجات تتطلّب كميات ضخمة من التغليف والنقل، مما يضاعف من انبعاثات الكربون والتلوّث البيئي.
كما أن الترويج للشراء بدافع العروض وليس الحاجة، يُعزز نمطاً من الاستهلاك غير المسؤول الذي يتعارض مع أهداف التنمية المستدامة. ولهذا السبب، بدأت بعض العلامات التجارية في اتخاذ مواقف مناهضة لهذا اليوم، مثل “باتاغونيا” التي ترفض تقديم خصومات في هذا اليوم، وتدعو بدلاً من ذلك إلى إعادة التدوير والتقليل من الاستهلاك.
أثر الجمعة البيضاء على الأسواق العربية
في الأسواق العربية، أصبحت الجمعة البيضاء موعداً سنوياً لزيادة حركة الشراء، سواء في المتاجر الإلكترونية أو التقليدية. وقد استجابت الشركات لهذا التوجّه عبر إعداد حملات تسويقية ضخمة تبدأ أحياناً من بداية شهر نوفمبر وتستمر حتى نهايته. كما نشهد تعاوناً واسعاً بين مواقع التجارة الإلكترونية والبنوك وشركات الشحن لتقديم تجربة تسوّق سلسة تشمل التوصيل المجاني، وخطط التقسيط، وخدمات الدفع الإلكتروني.
في المقابل، يظل الوعي الاستهلاكي بحاجة إلى تنمية، حيث يندفع كثير من الأفراد لشراء سلع غير ضرورية بسبب العروض. ومع تحوّل التسوق إلى نمط سلوكي ترفيهي في بعض الحالات، تتزايد الحاجة إلى حملات توعوية تُحفّز التفكير النقدي عند الشراء، وتُشجّع على تحديد الأولويات المالية والاحتياجات الحقيقية.
جدول مقارنة بين الجمعة السوداء والإثنين الإلكتروني:
| العنصر | الجمعة السوداء | الإثنين الإلكتروني |
|---|---|---|
| الأصل التاريخي | خمسينيات القرن الماضي – الولايات المتحدة | 2005 – الولايات المتحدة |
| التسمية الأصلية | Black Friday | Cyber Monday |
| نوع التسوق | ميداني وإلكتروني | إلكتروني فقط |
| نوع العروض | شامل (أجهزة، ملابس، أدوات منزلية، إلخ) | تقني وإلكتروني في الغالب |
| مستوى الزخم | أعلى وأشمل | أقل نسبيًا لكن مركّز على التكنولوجيا |
| الدول التي تتبنّاه | أغلب دول العالم | أغلب دول العالم |
خلاصة
تمثّل الجمعة السوداء أو البيضاء أكثر من مجرد يوم للتخفيضات، فهي ظاهرة اجتماعية واقتصادية تعكس تحوّلات عميقة في سلوك المستهلك، وآليات التسويق، والتفاعل مع التكنولوجيا. وبينما يرى البعض فيها فرصة لتوفير المال، يُنظر إليها من جانب آخر كرمز لاستهلاك مفرط يتطلّب مراجعة شاملة للقيم الاستهلاكية. ومع تنامي أهمية الوعي البيئي والاجتماعي، من المرجّح أن تشهد هذه الظاهرة تطورات جديدة تُعيد صياغة علاقتنا بالتسوق والعروض، وتحثنا على تبني أنماط استهلاك أكثر استدامة.
المصادر:
