كيفية تجنب الفتن

في عالم يموج بالتغيرات المتسارعة والتقلبات الفكرية والاجتماعية، تزداد أهمية الحديث عن الفتن وضرورة اجتنابها. الفتن كما وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية ليست مجرد حوادث عابرة، بل هي ابتلاءات واختبارات إلهية تمس العقائد والأخلاق والأعمال. ولقد حذّر الإسلام منها تحذيرًا بالغًا وبيّن للمؤمنين طرق تجنبها والنجاة منها، لما تسببه من اضطراب في الدين والدنيا على حد سواء. يتطلب تجنب الفتن وعياً عميقاً، والتزاماً صارماً بتعاليم الدين، وفهماً صحيحاً لأسبابها ونتائجها.

تعريف الفتن ومظاهرها

الفتنة في اللغة تعني الاختبار والامتحان، وأصلها من فَتَنَ الذهبَ: أي عرضه على النار لتمييز خالصه من غِشّه. أما في الاصطلاح الشرعي، فهي كل ما يبتلي الله به عباده ليظهر صدقهم من كذبهم، وقد تكون الفتنة في الدين، في المال، في النفس، في الولد، وفي الشهوات والشبهات.

تشمل الفتن أنواعًا كثيرة، منها:

• الفتن العقائدية: كالانحراف عن العقيدة الصحيحة واتباع الفرق الضالة.

• الفتن الأخلاقية: مثل انتشار الفواحش والمنكرات.

• الفتن الاجتماعية: كالنزاعات والحروب الأهلية.

• الفتن الاقتصادية: كاستحلال الربا والمال الحرام.

• الفتن السياسية: كالتنازع على السلطة بغير وجه حق.

خطورة الفتن في حياة المسلم

الفتن تمثل خطراً حقيقياً على استقرار المجتمعات وعلى سلامة الأفراد دينياً ودنيوياً، فهي تؤدي إلى زعزعة العقائد وإضعاف الإيمان، كما أنها تفتح الأبواب أمام الضلال والانحراف. وتكمن خطورة الفتنة في أنها قد تبدو في ظاهرها مغرية أو محببة للنفس، لكنها تحمل في باطنها الهلاك والخسران.

الرسول صلى الله عليه وسلم وصف الفتن بأنها تعرض على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فإذا استقبلها القلب وتمسك بها نكت فيه نكتة سوداء، وإذا رفضها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب إما بيضاء نقية أو سوداء منتكسة. وهذا يوضح كيف أن الفتنة تبدأ صغيرة ثم تتعاظم حتى تسيطر على القلب فتطمسه.

أنواع الفتن

1. فتنة الشهوات

هي الميل إلى ما تهواه النفس من المحرمات كحب المال بغير حق، وحب الزنا، والتعلق بالمظاهر، والركض وراء الملذات دون ضوابط شرعية. فتنة الشهوات من أخطر الفتن لأنها تدخل على النفس من باب الرغبة الفطرية، وإذا لم يكن الإنسان محصناً بالإيمان فقد يقع فيها بسهولة.

2. فتنة الشبهات

وهي الفتن التي تلبس على الناس دينهم فتجعل الباطل يبدو كأنه حق، مثل الدعوات الفكرية المنحرفة، والتأويلات الباطلة للنصوص الشرعية، وانتشار المذاهب الفاسدة. هذه الفتنة تؤثر على العقل وتشكك في الثوابت، ومن لا يمتلك العلم والبصيرة قد ينجر وراءها.

3. فتنة المال

المال زينة الحياة الدنيا، لكنه قد يتحول إلى فتنة إذا لم يُضبط بالضوابط الشرعية. حب المال قد يدفع الإنسان إلى الغش، والربا، والاحتكار، والرشوة، وغير ذلك من المحرمات التي تهدد استقرار المجتمع.

4. فتنة النساء

ورد في الحديث الشريف أن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء. وهي من الفتن العظيمة التي تحيط بالمجتمعات خاصة عند غياب الحشمة وتفشي التبرج والانحلال.

5. فتنة السلطة

الرغبة في الحكم والسيطرة قد تدفع بعض الناس إلى الظلم وسفك الدماء وزرع الفتن بين الناس للوصول إلى المناصب. هذه الفتنة من أخطر الفتن على استقرار الدول والأمم.

6. فتنة القتل والحروب

ورد في الحديث الشريف: “تكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي”، مما يدل على خطورة التورط في الفتن التي تصل إلى القتل وسفك الدماء.

وسائل تجنب الفتن

تجنب الفتن يتطلب التزاماً دقيقاً بجملة من المبادئ والتدابير الشرعية التي تساعد المسلم على الثبات في زمن الاضطرابات. من أبرز هذه الوسائل:

1. التمسك بالقرآن والسنة

القرآن الكريم هو حبل الله المتين، والسنة النبوية هي البيان العملي له. التمسك بهما يضمن للمسلم السير على الطريق المستقيم. ففي الحديث الشريف: “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي”.

الرجوع إلى القرآن والسنة يمنح المسلم وضوح الرؤية، ويجنبه الوقوع في الشبهات، كما يزوده بالثبات عند مواجهة الفتن.

2. طلب العلم الشرعي

العلم هو السلاح الأول في مواجهة الفتن، خاصة فتن الشبهات التي لا ينجو منها إلا من كان على دراية صحيحة بعقيدته ودينه. طلب العلم يعين المسلم على التمييز بين الحق والباطل، ويمنحه القدرة على مواجهة الأفكار المنحرفة بالحجة والدليل.

3. لزوم جماعة المسلمين وإمامهم

الابتعاد عن الجماعة والانفراد يوقع الإنسان في الفتن، لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم جماعة المسلمين وعدم التفرق، فقال: “عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة”. وجود المسلم ضمن جماعة المسلمين يمنحه الحماية ويبعده عن التأثر بالدعوات المنحرفة.

4. كثرة الدعاء

الدعاء سلاح المؤمن في كل وقت، وفي زمن الفتن يصبح الدعاء ضرورة ملحة، خاصة الدعاء الذي كان يكثر منه النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك”. فثبات القلب في الفتن من أعظم النعم التي يمن الله بها على عباده.

5. الإكثار من الطاعات

الطاعات تحصن القلب وتزيده قوة في مواجهة الفتن، وعلى رأسها الصلاة، والصيام، وقراءة القرآن، والذكر. الإكثار من الطاعات يجعل القلب متصلاً بالله، قوياً في وجه المغريات، ثابتا أمام المحن.

6. اجتناب مواطن الفتن

من الحكمة أن يبتعد المسلم عن أماكن الفتن ولا يقترب منها. فالبعد عنها أولى وأسلم من الدخول فيها ومحاولة مقاومة تأثيرها. فكم من إنسان تورط في فتنة بسبب اقترابه منها بدعوى أنه قادر على مواجهتها ثم ما لبث أن وقع فيها.

7. الصبر

الصبر هو أحد أعمدة النجاة في زمن الفتن. المسلم بحاجة إلى صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على أقدار الله المؤلمة. الفتن تقتضي تحمل الابتلاءات دون أن ينحرف المسلم عن منهجه القويم.

8. استشارة العلماء الثقات

في زمن الفتن يكثر التضليل ويصعب على كثير من الناس التمييز بين الصواب والخطأ. لذلك كان لزاماً على المسلم أن يرجع إلى العلماء الربانيين الذين عرفوا بثباتهم على الحق ونزاهتهم، ليستنير بتوجيهاتهم.

أهمية البصيرة في زمن الفتن

البصيرة من أعظم النعم التي يجب أن يسعى المسلم لتحصيلها. فالبصيرة ليست مجرد معرفة، بل هي فهم عميق ووعي مستنير يمكن الإنسان من رؤية الحقائق كما هي، دون أن تنطلي عليه الزخارف الباطلة.

الفتن عادة ما تلبس لبوس الحق، وتستدرج الناس بمسميات براقة وشعارات زائفة. ولذلك من لا يمتلك بصيرة راسخة قد يقع في حبائلها بسهولة. وقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓا۟ إِلَى ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِىۖ﴾ [يوسف: 108]، مما يؤكد ضرورة السير على هدى وبصيرة.

دور الأسرة والمجتمع في الوقاية من الفتن

الأسرة هي الحصن الأول في حماية الأفراد من الفتن، فالتربية السليمة على العقيدة الصحيحة، وغرس القيم الأخلاقية منذ الصغر، يساعد الأبناء على مواجهة التحديات التي قد تعصف بإيمانهم في المستقبل. كما أن دور المجتمع لا يقل أهمية عن دور الأسرة، فالمجتمعات التي تعلي من شأن الفضيلة، وتحارب الفساد، وتدعم القيم الإسلامية، تكون أقل عرضة للفتن وأقدر على مواجهتها.

أثر الإعلام في نشر الفتن أو مواجهتها

الإعلام يلعب دوراً محورياً في عصرنا الحديث، فهو من الوسائل التي يمكن أن تكون سبباً في نشر الفتن إذا استخدمت في غير محلها، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت أرضاً خصبة لنشر الشبهات والشهوات. في المقابل يمكن أن يكون الإعلام أداة فعالة في التوعية ومكافحة الفتن إذا التزم بالمسؤولية الأخلاقية والدينية.

الجدول التالي يوضح الفرق بين المسلم الذي يتبع وسائل النجاة من الفتن والمسلم الغافل عنها:

دور الزمن في تعاقب الفتن

الفتن ليست ظاهرة طارئة بل هي سنة من سنن الله في الكون، وقد ورد في الحديث الشريف: “لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم”. وهذا يدل على أن الفتن ستستمر في الظهور، بل ستزداد مع مرور الزمن، مما يتطلب من المسلم يقظة دائمة واستعداداً مستمراً لمواجهتها.

خلاصة

تجنب الفتن من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية، وهو من أهم أسباب الثبات على الدين والفوز برضا الله في الدنيا والآخرة. المسلم الواعي يجب أن يكون حذراً ويقظاً، يسعى دائماً للاحتماء بحبل الله المتين، ويبتعد عن مصادر الفتنة ومداخلها. إن الالتزام بالمنهج القرآني، واتباع السنة النبوية، وطلب العلم، ولزوم جماعة المسلمين، وكثرة الطاعات، والدعاء بالثبات، والرجوع إلى العلماء في النوازل، تشكل بمجموعها الحصن المنيع الذي يحمي المسلم من الانجراف وراء الفتن بأنواعها.

المصادر

1. القرآن الكريم.

2. صحيح البخاري، كتاب الفتن.