هل يجب عليك أن تفني صحتك في سبيل شركتك الناشئة؟

في عصر السرعة والتكنولوجيا، أصبحت ريادة الأعمال حلمًا يراود الكثير من الشباب الطموح الساعي إلى الاستقلال المالي والمهني. ومع اتساع رقعة المشاريع الناشئة في العالم العربي، بات يُنظر إلى المؤسسين المؤسسين والمؤسسات الناشئة على أنهم أبطال العصر الجديد، الذين يغامرون بكل شيء سعياً وراء فكرة قد تُغير العالم. لكن في خضم هذا الحماس والعمل المتواصل، يبرز سؤال حتمي يعكس جانبًا مظلمًا من ريادة الأعمال: هل يجب على رائد الأعمال أن يُفني صحته في سبيل شركته الناشئة؟

ثقافة “الاحتراق” وريادة الأعمال

تشير الكثير من الأدبيات المعاصرة إلى أن بيئة ريادة الأعمال غالبًا ما تُغذّي ثقافة “الاحتراق الذاتي” (Burnout Culture)، حيث يُمجد السهر الطويل، وتُعتبر أيام العمل الممتدة إلى ما بعد منتصف الليل دليلاً على الالتزام، وتُستَغَل الصحة العقلية والجسدية كوقود لدفع المشروع إلى الأمام. ولا شك أن هذه الثقافة تؤدي إلى نتائج كارثية، ليس فقط على مستوى الأفراد، بل على استمرارية المشروع نفسه.

فريادة الأعمال ليست مجرد مغامرة فكرية أو اقتصادية، بل هي رحلة طويلة من التحديات النفسية والجسدية، تتطلب توازناً دقيقًا بين الطموح والواقعية، بين التضحية والاعتناء بالذات. ولسوء الحظ، يُغفل الكثير من رواد الأعمال الجدد هذا التوازن، معتقدين أن نجاح المشروع يستحق التضحية الكاملة بالحياة الشخصية والصحة.

الأثمان الحقيقية للتضحية بالصحة

تشير دراسات متعددة إلى أن مستويات التوتر لدى رواد الأعمال تفوق المعدلات الطبيعية لدى عموم الناس. وتشمل أبرز المشكلات الصحية التي تصيب مؤسسي الشركات الناشئة ما يلي:

الصحة العقلية على وجه الخصوص أصبحت محور اهتمام الباحثين في مجال ريادة الأعمال، حيث كشفت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا أن 49% من رواد الأعمال يعانون من نوع من اضطرابات الصحة العقلية، مقابل نسبة أقل بكثير لدى غيرهم من العاملين في المجالات التقليدية.

الرغبة في السيطرة والمثالية المُفرطة

جزء كبير من هذه الضغوط ينشأ من اعتقاد داخلي لدى مؤسس الشركة بأنه المسؤول الوحيد عن كل تفصيلة في المشروع. ومع نمو الفريق وتوسّع المشروع، يتردد العديد من الرواد في تفويض المهام، ويظلون عالقين في دوامة “أنا فقط من يمكنه تنفيذ هذا الأمر كما ينبغي”. هذه الرغبة في السيطرة المطلقة تؤدي إلى مضاعفة عبء العمل وتعميق الشعور بالاحتراق الذاتي.

من جهة أخرى، يلعب هوس الكمال (Perfectionism) دورًا كبيرًا في استنزاف الطاقة النفسية. فبدلاً من التركيز على التقدّم المرحلي للمشروع، ينشغل المؤسس بتفاصيل ثانوية، ويعتبر أي تقصير طفيف فشلًا كارثيًا. هذه النظرة غير الواقعية تُغذي مشاعر القلق وتُعزّز تدهور الصحة العامة.

الفارق بين الالتزام والاحتراق

ثمة خيط رفيع بين الاجتهاد والاحتراق. فالالتزام الحقيقي هو أن تعمل بذكاء، لا أن تعمل بلا انقطاع. ومن المؤسف أن ثقافة الشركات الناشئة تُبجّل العمل القاسي أكثر من العمل الذكي. العمل القاسي بلا حدود لا يعني بالضرورة تحقيق نتائج أفضل. بل العكس تماماً، فالإجهاد المزمن يضعف قدرة المؤسس على اتخاذ قرارات سليمة، كما يؤثر سلبًا على علاقاته مع الشركاء والموظفين والمستثمرين.

أهمية تبني عقلية مستدامة

النظر إلى ريادة الأعمال على أنها ماراثون وليس سباقًا سريعًا هو أمر جوهري لبقاء المشروع واستمراره. العقلية المستدامة تعني:

• الاستثمار في الصحة العقلية: تخصيص وقت للراحة، والرياضة، والنوم الكافي.

• تفويض المهام بذكاء: الثقة بالفريق وتوزيع الأدوار يقلل من الضغوط.

• تحديد أولويات واضحة: ليس كل شيء عاجلاً، وليس كل شيء مهماً.

• الوعي بالمخاطر النفسية: والانفتاح