سبب نزول سورة البقرة
تُعدّ سورة البقرة من أعظم سور القرآن الكريم، وأطولها على الإطلاق، وهي السورة الثانية في ترتيب المصحف بعد سورة الفاتحة. نزلت هذه السورة في المدينة المنورة بعد هجرة النبي محمد ﷺ، ولذلك تُصنّف ضمن السور المدنية، وارتبط نزولها ارتباطًا وثيقًا بالمجتمع المدني الذي كان يتكوّن في بداياته، حيث تتناول قضايا تشريعية، واجتماعية، واقتصادية، وروحية، إلى جانب مواجهتها للتحديات الفكرية والعقائدية التي شكّلت ساحة الصراع في ذلك العصر. ولأنها نزلت على مراحل متعددة، فقد تفرّقت أسباب نزول آياتها بحسب الوقائع والأحداث التي عاشها المسلمون في المدينة.
الطابع العام وأهمية سورة البقرة
تتميّز سورة البقرة بسياقها المتنوع الذي يجمع بين الأحكام الشرعية، والعقيدة، والتاريخ، والتشريعات الاقتصادية، وأصول المعاملات، إلى جانب خطابها الموجّه إلى بني إسرائيل، الذي يحتلّ حيّزًا واسعًا من السورة. وتشير الروايات إلى أنّ نزولها استمر على مدى سنوات، وأنّ آخر آية نزلت في القرآن كانت منها وهي قوله تعالى:
“واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون” (سورة البقرة: 281).
وتكمن أهمية سورة البقرة في ما ورد من أحاديث عن النبي ﷺ منها قوله:
“اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة” (رواه مسلم).
أسباب النزول العامة والخاصة في سورة البقرة
نظرًا لطول سورة البقرة، وتعدد موضوعاتها، فإنّ أسباب نزولها تتنوّع ما بين آيات نزلت بسبب حوادث معينة وقعت بين المسلمين أو بين المسلمين وأهل الكتاب، وآيات نزلت ردًا على أسئلة أو استفسارات، وآيات أخرى جاءت بتشريعات جديدة لمعالجة واقع اجتماعي أو اقتصادي معين.
1. سبب التسمية وبداية السورة
أُطلق اسم “البقرة” على هذه السورة نسبة إلى القصة التي وردت في الآيات من (67) إلى (73)، والتي تتحدث عن حادثة وقعت في بني إسرائيل حين قتل رجل منهم قريبه، فادّعى كل فريق البراءة، ثم أمرهم الله بذبح بقرة كوسيلة لكشف القاتل.
ورغم أن سبب نزول قصة البقرة يرجع إلى حادثة وقعت في بني إسرائيل قبل الإسلام، إلا أن ورودها في هذه السورة يحمل بعدًا رمزيًا وتعليميًا، كما ورد عن ابن عباس وغيره من المفسرين أن الله ذكر تلك القصة توبيخًا لبني إسرائيل لعنادهم وتسويفهم.
2. آيات التشريع وموقف بني إسرائيل
تشير العديد من آيات سورة البقرة إلى التشريعات التي فُرضت على المسلمين، خاصة فيما يتعلق بالصلاة، والصيام، والحج، والقتال، والزكاة، والربا، والمعاملات المالية، وغيرها.
وقد نزلت بعض الآيات ردًا على اعتراضات من اليهود الذين كانوا يسكنون المدينة، وكانوا يحاولون إثارة الشبهات في نفوس المسلمين.
من أبرز هذه الآيات، قوله تعالى:
“سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها” (البقرة: 142)،
وقد نزلت هذه الآية عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة، حيث اعترض اليهود على ذلك، فردّ الله عليهم بهذه الآية.
3. آية الكرسي وأسباب نزولها
آية الكرسي من أعظم آيات القرآن، وقد ورد في الحديث أنها “سيدة آي القرآن”، ومضمونها يدور حول توحيد الله وعظمته وسعة علمه وقدرته.
ورغم عدم وجود رواية مباشرة تفيد بسبب نزول محدد لآية الكرسي، إلا أن سياقها في السورة يدل على أهميتها العقدية، إذ جاءت بعد آيات تتناول الإنفاق والإحسان، فجاءت لترسيخ التوحيد واليقين في قلب المؤمن، وهو أساس كل عمل.
4. نزول آيات الإنفاق
من أسباب نزول بعض الآيات المتعلقة بالإنفاق، ما رواه عبد الله بن عباس أن رجلًا أهدى إلى فقير تمرًا، فاستنقصه المنافقون، فنزل قوله تعالى:
“الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية…” (البقرة: 274).
وجاءت هذه الآية ردًا على المنافقين الذين كانوا يستهزئون بالصدقات القليلة، فبيّن الله أن الإنفاق مقبول عنده ولو كان قليلًا ما دام صادرًا عن نية خالصة.
5. آيات الربا وتحريمه التدريجي
ورد في سورة البقرة أوسع تشريع يتعلق بتحريم الربا، حيث نزل قوله تعالى:
“الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس…” إلى قوله:
“وأحل الله البيع وحرّم الربا…” (البقرة: 275–279).
وقد نزلت هذه الآيات بسبب استمرار بعض المسلمين في التعامل بالربا رغم بداية تحريمه، ومنهم العباس بن عبد المطلب، وقد جاء التهديد في الآية 279 واضحًا:
“فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله…”، وهو من أشد ما ورد في العقوبات في القرآن.
6. آية الدين وأسبابها
تُعدّ آية الدين (الآية 282) أطول آية في القرآن، وقد نزلت لتنظيم المعاملات المالية والتوثيق بالكتابة والشهادة.
وتشير بعض الروايات إلى أن الآية نزلت عندما استدان رجل من آخر مبلغًا من المال دون كتابة، فوقع الخلاف بعد ذلك، فجاءت هذه الآية لترسي مبدأ التوثيق في المعاملات.
وهذا التشريع الاقتصادي هو من أعظم أوجه تنظيم الحياة المدنية التي أتت بها السورة.
7. آخر آيتين وسبب نزولهما
قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح عن آخر آيتين من سورة البقرة:
“من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه” (رواه البخاري ومسلم).
وقد ورد في بعض الروايات عن ابن عباس أن هاتين الآيتين نزلتا عندما شقّت على الصحابة فكرة المحاسبة على ما في النفس، حتى إنهم جاؤوا إلى النبي ﷺ وقالوا: “يا رسول الله، كُلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزِلَت عليك هذه الآية ولا نطيقها”، يقصدون قوله تعالى:
“وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله…” (البقرة: 284).
فأنزل الله بعد ذلك قوله:
“لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها…” (البقرة: 286)،
فكانت هذه الآية رحمة ورفعًا للحرج عن المؤمنين.
الجدول التالي يوضح أبرز الآيات وأسباب نزولها في سورة البقرة
| رقم الآية | الموضوع | سبب النزول |
|---|---|---|
| 67-73 | قصة بقرة بني إسرائيل | وقعت جريمة قتل بينهم فأمروا بذبح بقرة لبيان القاتل |
| 142 | تحويل القبلة | ردًّا على استهزاء اليهود بتغيير اتجاه الصلاة |
| 245 | الحثّ على الإنفاق في سبيل الله | تشجيع المسلمين على البذل والتبرع |
| 274 | الإنفاق ليلًا ونهارًا | ردًا على المنافقين الذين سخروا من الصدقة القليلة |
| 275–279 | تحريم الربا | استجابة لحوادث تعلّق بعض الصحابة بالربا |
| 282 | آية الدين وتنظيم المعاملات المالية | نزلت لتنظيم الديون والمعاملات بالتوثيق |
| 284–286 | الختام العقدي للسورة ورفع الحرج عن الأمة | شقّ على الصحابة موضوع المحاسبة على ما في النفس فنزل التخفيف |
خاتمة علمية تحليلية
إن سورة البقرة ليست مجرد مجموعة من الآيات المتنوعة في الموضوعات، بل تمثل بناءً تشريعيًا متكاملًا للمجتمع الإسلامي الأول، وقد نزلت لتعالج مشكلات واقعية وقضايا ملحّة، فكانت كل آية تنزل في موضعها، وتأتي في توقيتها المناسب.
ولأن السورة نزلت على مدى زمني طويل نسبيًا، فقد ساهمت في بناء وعي جماعي لدى المسلمين، يتجاوز العبادات إلى شؤون المجتمع والاقتصاد والسياسة والعلاقات بين الأفراد، سواء في السلم أو الحرب.
إن أسباب نزول آيات سورة البقرة تُظهر كيف كان الوحي مرتبطًا بالواقع، يجيب عن تساؤلات ويعالج مواقف ويضع أساسًا لشريعة متكاملة تُرسي دعائم الدين والدولة، وتُقدّم نموذجًا فريدًا في التشريع المتدرّج والحوار مع المغاير، والقدرة على بناء أمة وسطية قائمة على الرحمة والعدل والتكافل.
المراجع:
-
السيوطي، “لباب النقول في أسباب النزول”
-
ابن كثير، “تفسير القرآن العظيم”
