مُلخص كتاب “التعلّم التجريبي” لدايفيد كولب – الجزء الأول
يُعدُّ كتاب “التعلّم التجريبي” (Experiential Learning) للباحث الأكاديمي دايفيد كولب من أهم الأعمال التي تناولت التعلّم من منظور غير تقليدي. وقد جاء الكتاب ليطرح نظرية جديدة حول التعلّم، والتي تركز على فكرة أن المعرفة لا تُكتسب فقط من خلال القراءة أو الاستماع للمعلومات، بل من خلال الخبرات الشخصية والتفاعل المباشر مع المحيط. وفقًا لكولب، فإن التعلّم هو عملية مستمرة يتم فيها بناء المعرفة عبر تفاعل الفرد مع تجاربه الحياتية. سنحاول في هذا المقال استعراض الجزء الأول من كتابه الذي يركز على تعريف التعلّم التجريبي وشرح أهم المفاهيم التي قام كولب بتقديمها.
مفهوم التعلّم التجريبي
بدأ كولب بتوضيح أن التعلّم التجريبي ليس مجرد عملية استقبال للمعلومات، بل هو عملية تفاعلية يقوم فيها المتعلم بجمع البيانات والخبرات من محيطه، ثم يراجعها ويتأمل فيها، ليقوم بعد ذلك بتطوير فهم جديد أو تعديل المعرفة الحالية. يرى كولب أن التعلّم يحدث بشكل دوري ومنتظم ويعتمد على تفاعل الفرد مع تجربته الشخصية، ليكون التعلّم بذلك نشاطًا ديناميكيًا مستمرًا.
العملية برمتها تبدأ بتجربة مباشرة، تليها عملية من التفكير والتأمل، ثم تبلور استنتاجات أو مفاهيم جديدة، ليأتي في النهاية التفاعل مع العالم الواقعي بناءً على هذه المفاهيم المستخلصة. هذا الإطار يدمج أبعادًا متعددة للتعلم تتضمن التجربة والملاحظة والتفكير والممارسة العملية.
النموذج الرباعي للتعلّم التجريبي
يقدّم كولب نموذجًا مرجعيًا للتعلّم التجريبي يتكون من أربع مراحل متكاملة تُمثل حلقات دائرية متواصلة. هذه المراحل تتراوح بين التجربة الفعلية والمراجعة والتأمل، ثم الوصول إلى التفكير المجرد والممارسة التطبيقية:
-
التجربة الملموسة (Concrete Experience): في هذه المرحلة، يبدأ الفرد بتجربة فعلية في الحياة الواقعية، سواء كانت هذه التجربة بمحض الصدفة أو نتيجة لقرار موجه. إنها المرحلة التي يختبر فيها الشخص حدثًا أو موقفًا يثير لديه مشاعر وتفاعلات معينة.
-
الملاحظة والتفكير (Reflective Observation): بعد إتمام التجربة، يأتي دور التفكير والتأمل في الأحداث. في هذه المرحلة، يراجع الفرد ما حدث ويفكر في النتائج المترتبة عليه. هنا يبدأ التعلّم الحقيقي من خلال الوقوف على النقاط الهامة التي تثير التفكير، ويفهم الشخص من خلال ذلك كيف أثرت التجربة في فهمه للأشياء.
-
التجريد المفهومي (Abstract Conceptualization): في هذه المرحلة، يبدأ المتعلم في تحليل التجربة بشكل منطقي وتقديم تفسيرات أو أفكار نظرية. يعتمد المتعلم هنا على توظيف المفاهيم والمعلومات التي اكتسبها لتطوير فكرة أو إطار علمي جديد قد يساعده في فهم أحداث المستقبل.
-
التجريب النشط (Active Experimentation): عندما يصل المتعلم إلى مفاهيم جديدة نتيجة للتفكير والتأمل، يقوم في هذه المرحلة بتطبيق هذه المفاهيم على أرض الواقع. إنه الاختبار الفعلي الذي يجسد ما تعلمه، وبالتالي يقوم بتطوير ردود فعل جديدة بناءً على الخبرات السابقة.
هذه المراحل تشكل حلقة مستمرة من التفاعل بين الخبرة والملاحظة والتفكير والممارسة، مما يسمح للفرد بتعلم معلومات جديدة أو تحسين المهارات الموجودة لديه. الملاحظة هنا أن المتعلم لا يتقدم فقط إلى المرحلة التالية بل يعود أيضًا إلى مرحلة سابقة ليُعيد التفاعل مع التجربة بطرق جديدة، مما يعزز التعلّم.
أنماط المتعلمين
في سياق تطبيق هذا النموذج، قدم كولب مفهوم “أنماط المتعلمين”، حيث تميز كل شخص بنمط تعلم معين يعتمد على كيفية تفاعله مع هذه المراحل. يرى كولب أن الناس يختلفون في الطريقة التي يمرون بها عبر هذه المراحل الأربعة، مما يؤدي إلى ظهور أربعة أنماط رئيسية للمتعلمين:
-
المتعلمين التجريبيين (Converging Learners): هؤلاء الأفراد يفضلون التطبيق العملي للمفاهيم. هم قادرون على اتخاذ قرارات عملية بناءً على التفكير المجرد. يبحثون عن حلول محددة ويستمتعون بالتحديات التي تتطلب استخدام الخبرة لحل المشكلات.
-
المتعلمين الاستكشفيين (Accommodating Learners): هؤلاء الأفراد يتعلمون بشكل أساسي من خلال التجربة والتفاعل المباشر. هم منفتحون على الأفكار الجديدة والتجارب الميدانية، ويتخذون قراراتهم بناءً على الحدس والتفاعل مع الواقع.
-
المتعلمين التأمليين (Diverging Learners): هؤلاء الأشخاص يفضلون التفكير العميق والتحليل التأملي للخبرات. يستمتعون بمراجعة الأفكار والتجارب من زوايا متعددة ويحبون التفكير في الاحتمالات المستقبلية.
-
المتعلمين التحليليين (Assimilating Learners): هؤلاء الأفراد يفضلون فهم المعلومات على مستوى نظري وتجريدي. يعتمدون على تحليل المعلومات وتصنيفها وتنظيمها. هم يفضلون المعلومات المتكاملة التي توفر استنتاجات منطقية وواسعة.
أهمية التعلّم التجريبي في التعليم والممارسة
تعتبر نظرية التعلّم التجريبي، وفقًا لكولب، محورية في التعليم لأنها تشجع على تنمية التفكير النقدي والتحليلي لدى المتعلمين. فبدلاً من الاعتماد على التعليم التقليدي الذي يتضمن المحاضرات والمراجعة النظرية فقط، يتيح هذا النموذج للمتعلمين الفرصة للتفاعل مع العالم من حولهم، مما يعزز قدرتهم على استيعاب المعرفة بشكل أعمق وأكثر تأثيرًا.
من خلال هذه العملية التفاعلية، لا يحصل الفرد على معلومات جديدة فحسب، بل أيضًا يكتسب القدرة على التفكير النقدي وإجراء تغييرات على طريقة تفكيره بناءً على التجارب المباشرة التي يخوضها. على سبيل المثال، الطلاب الذين يخضعون لتعليم تجريبي يصبحون أكثر قدرة على التكيف مع المواقف الجديدة في الحياة العملية.
التطبيقات العملية لنظرية التعلّم التجريبي
تجد نظرية التعلّم التجريبي تطبيقًا واسعًا في العديد من المجالات، بما في ذلك التعليم، وتطوير الأعمال، والتدريب المهني، حتى في مجال الصحة. تعتمد العديد من البرامج التعليمية الحديثة، خاصة في مجالات مثل الطب والهندسة وعلوم البيئة، على أسلوب التعلم التجريبي كأساس لبناء الخبرات التعليمية.
المدارس والجامعات، على سبيل المثال، بدأوا بتطبيق فكرة التعلم التجريبي من خلال المناهج التي تضم الأنشطة العملية، والتدريب الميداني، وحلقات النقاش التي تشجع الطلاب على استكشاف وتطبيق الأفكار الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، أصبح هذا النموذج أساسيًا في تدريب القادة والمديرين في الشركات، حيث يعتمد التدريب على حالات عملية، تجارب شخصية، وتطبيقات حقيقية للأدوات النظرية.
خاتمة الجزء الأول
من خلال تقديمه لنموذج التعلّم التجريبي، وضع كولب أسسًا لفهم كيفية اكتساب المعرفة من خلال التجارب المباشرة والتفاعل مع العالم من حولنا. يُظهر الكتاب كيف يمكن للفرد أن يتعلم ويُطور نفسه بشكل مستمر عبر مراحله المختلفة، التي تبدأ بالتجربة وتنتهي بالاختبار العملي للمفاهيم المستخلصة.
