التعاطف: مستقبل القيادة ومصلحة الشركات

في عالم الأعمال الحديث، الذي يشهد تحولات متسارعة وتحديات معقدة، لم يعد النجاح يُقاس فقط بالأرباح السنوية أو حجم السوق المُستحوذ عليه، بل بات يُقاس بمدى تأثير القيادة في تشكيل ثقافة العمل وتحفيز الأفراد وبناء فرق قوية ومترابطة. ومن بين الصفات التي باتت تُعد حجر الأساس في القيادة الفعالة، يبرز “التعاطف” كقيمة إنسانية واحترافية فائقة الأهمية. لم يعد التعاطف سمة ثانوية أو شخصية، بل أصبح مكونًا استراتيجيًا في النمو التنظيمي واستدامة المؤسسات.

يشير التعاطف في سياق القيادة إلى قدرة القائد على فهم مشاعر وتجارب الآخرين، والانفتاح على وجهات نظرهم، والاستجابة لها بطريقة رحيمة وبنّاءة. إنه يتجاوز المجاملة أو التفهّم السطحي، ليمتد إلى خلق بيئة تُعزّز الانتماء، وتمنح الموظفين شعورًا بالاحترام والدعم. ومع تصاعد المطالب بتعزيز الصحة النفسية، وتحسين تجارب الموظفين، وتحقيق العدالة داخل بيئة العمل، يصبح التعاطف هو الجسر الحقيقي نحو قيادة إنسانية تُنتج أداءً أعلى وولاءً أطول.

أولاً: التحوّلات العالمية التي جعلت التعاطف ضرورة قيادية

شهد العالم خلال العقدين الماضيين تغيرات اجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة، أثّرت على مفاهيم العمل والقيادة. من أبرز هذه التحولات:

• تزايد الوعي بالصحة النفسية في بيئة العمل: بات الموظفون أكثر وعيًا بأهمية التوازن بين الحياة والعمل، وباتوا يبحثون عن بيئات عمل تدعمهم إنسانيًا قبل أن تحمّلهم الأعباء.

• تصاعد جيل الألفية والجيل Z في بيئة العمل: هذان الجيلان يتمتعان بتوقعات مختلفة من القادة، فهم يبحثون عن المعنى في العمل، ويقدّرون الأصالة، ويطالبون بالتواصل الشفاف والتفهّم العاطفي.

• التحول نحو العمل الهجين والمرن: غيّرت جائحة كوفيد-19 من طبيعة العمل، وأظهرت الحاجة إلى قادة قادرين على فهم التحديات الفردية التي يواجهها الموظفون في منازلهم، وأهمية بناء جسور إنسانية رغم المسافات.

ثانيًا: التعاطف ليس ضعفًا.. بل استراتيجية قوة

لوقت طويل، كان يُنظر إلى التعاطف باعتباره “ضعفًا” لا يليق بالقيادة القوية، وكأن القائد يجب أن يكون عقلانيًا بحتًا، صارمًا، خاليًا من المشاعر. لكن الأبحاث الحديثة والنتائج الواقعية أثبتت العكس. إليك بعض النقاط التي تُبرز كيف يشكّل التعاطف عنصر قوة استراتيجية:

• زيادة الولاء والانتماء: الموظفون الذين يشعرون بأن قادتهم يتفهّمونهم، يظلون في وظائفهم لفترة أطول ويبدون التزامًا أعلى بالمؤسسة.

• تحسين التعاون والعمل الجماعي: بيئة العمل التي تحكمها علاقات قائمة على التعاطف والتقدير تُحفّز التعاون بدلاً من المنافسة السامة.

• تحسين اتخاذ القرارات: القائد المتعاطف يأخذ في الحسبان الجوانب الإنسانية والظروف المحيطة، مما يمنحه صورة أشمل عند اتخاذ القرارات المهمة.

• خفض معدلات الاحتراق الوظيفي: أظهرت الدراسات أن الموظفين الذين يعملون تحت قيادة متعاطفة يعانون أقل من الإرهاق النفسي والاحتراق المهني.

ثالثًا: ما الذي يفعله القادة المتعاطفون بفعالية؟

يتميّز القادة المتعاطفون بسلوكيات وممارسات محددة تجعلهم أكثر تأثيرًا وإنسانية. من بين هذه السلوكيات:

1. الاستماع العميق دون حكم: لا يكتفون بسماع الكلمات، بل يحاولون فهم المشاعر والمقاصد وراءها.

2. التواصل الصادق والشفاف: لا يُخفون الحقائق أو يتبنّون الغموض، بل يتعاملون مع موظفيهم كأطراف ناضجة وذكية تستحق الاحترام.

3. الاعتراف بالمعاناة وتقديم الدعم: في أوقات الأزمات، لا يمر القائد المتعاطف مرور الكرام على معاناة الموظفين، بل يعبّر عن تفهّمه ويقدّم الدعم الواقعي.

4. التكيّف مع احتياجات الأفراد: لا يُطبّق أسلوبًا واحدًا على الجميع، بل يُراعي الاختلافات والاحتياجات الفردية لكل موظف.

5. بناء ثقافة تتبنّى التعاطف: يُشجّع الآخرين على ممارسة التعاطف، ويكافئ السلوكيات التي تدعم بيئة إنسانية وصحية.

رابعًا: آثار التعاطف على أداء الشركات

يتعدى أثر التعاطف حدود العلاقات الفردية، ليصل إلى نتائج الأعمال نفسها. فالشركات التي تعتمد في قيادتها على مبادئ التعاطف تشهد مجموعة من الآثار الإيجابية، منها:

خامسًا: التعاطف كعنصر أساسي في مستقبل القيادة

وفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة Harvard Business Review، فإن القادة الذين يُظهرون درجات عالية من التعاطف يتمتعون بفرص أكبر في تحقيق نتائج ملموسة على مستوى الأداء والابتكار. بل إن 76% من الموظفين الذين يشعرون بأن قادتهم يتفهمونهم ويدعمونهم، أبلغوا عن زيادة ملحوظة في رضاهم الوظيفي وارتباطهم بالمؤسسة.

ومع تصاعد الأتمتة والذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات، ستبقى السمات الإنسانية مثل التعاطف والتواصل العاطفي من أهم الأدوات التي لا يمكن استبدالها تكنولوجيًا. فبينما تتولى الآلات المهام الروتينية، تبقى القيادة التعاطفية الضمان الحقيقي للحفاظ على الروح الإنسانية داخل المؤسسات.

سادسًا: كيف تبني المؤسسات ثقافة قائمة على التعاطف؟

كي لا يبقى التعاطف مجرد مفهوم أخلاقي، يجب على المؤسسات أن تتبنّاه كقيمة عملية وراسخة. ويتحقق ذلك من خلال خطوات منهجية، من أبرزها:

• إدماج التعاطف ضمن برامج التدريب القيادي: يجب تعليم القادة كيف يمارسون التعاطف ضمن مواقف العمل اليومية.

• تحديث السياسات الداخلية لتكون إنسانية أكثر: من خلال ساعات عمل مرنة، وسياسات إجازات تُراعي الظروف الفردية، ودعم نفسي مخصص للموظفين.

• قياس وتقييم درجات التعاطف في القيادة: مثلما يتم قياس الأداء والكفاءة، يجب تطوير أدوات تقيس مدى قدرة القادة على التعاطف الفعّال.

• تشجيع قصص النجاح المبنية على التعاطف: نشر الأمثلة والنماذج التي تُظهر كيف أسهم التعاطف في حل الأزمات أو تحسين الأداء.

سابعًا: تحديات القيادة التعاطفية وكيفية تجاوزها

رغم مزاياها، تواجه القيادة التعاطفية بعض التحديات التي قد تعوق فعاليتها إن لم تُدار بشكل سليم. من أبرز هذه التحديات:

• الخوف من تجاوز الحدود المهنية: قد يخشى البعض أن يؤثر التعاطف على الحزم واتخاذ القرارات الصعبة، إلا أن التوازن بين الحزم والرحمة هو جوهر القيادة الفعّالة.

• الإرهاق العاطفي للقادة: قد يتعرض القادة الذين يمارسون التعاطف المفرط للإجهاد العاطفي، ما يستدعي ضرورة تدريبهم على حماية أنفسهم دون فقدان الإنسانية.

• ثقافات الشركات التي لا تثمّن المشاعر: في بعض البيئات الصارمة، يُنظر إلى التعاطف كضعف، لذا لا بد من تثقيف الإدارة العليا حول قيمته الاستراتيجية.

ثامنًا: دراسات وأمثلة واقعية تؤكد فعالية القيادة المتعاطفة

تشير دراسة أُجريت في عام 2021 من قبل مركز Catalyst أن الموظفين الذين يعملون مع قادة يُظهرون تعاطفًا، كانوا أكثر احتمالًا بنسبة 86% للإبلاغ عن قدرتهم على موازنة العمل والحياة الشخصية، مقارنة بغيرهم. كما ارتفعت قدرتهم على الابتكار بنسبة 61%.

كما تُعد شركة مايكروسوفت مثالاً حيًا على النجاح الناتج عن القيادة التعاطفية. تحت إدارة “ساتيا ناديلا”، تحوّلت الشركة إلى بيئة تُشجّع على التعاطف والتعلّم المستمر، ما ساهم في تحقيق ارتفاع كبير في رضا الموظفين وسعر السهم في الأسواق.

خاتمة: لماذا التعاطف هو المستقبل الحقيقي للقيادة؟

إن ما يُميّز القادة العظماء ليس مجرد قدرتهم على تحفيز الفرق أو تحقيق الأرباح، بل قدرتهم على بناء بيئة يشعر فيها الجميع بأنهم مرئيون، مسموعون، ومقدّرون. في عالم يتغيّر بوتيرة غير مسبوقة، يصبح التعاطف هو السلاح الناعم الذي يُعيد للقيادة جوهرها الإنساني، ويُحوّل الشركات من مؤسسات إنتاجية فقط إلى كيانات ذات روح ورؤية. فالتعاطف ليس فقط من أجل الخير، بل من أجل النجاح المستدام.

المراجع:

1. Harvard Business Review – “Why Compassionate Leadership Is the Future of Work”, 2022

2. Catalyst – “The Power of Empathy in the Workplace”, 2021