في عالم الكتابة المستقلة، يشكّل هوس الكمال أحد أكبر العوائق النفسية والمهنية التي يواجهها الكُتاب على اختلاف مستوياتهم. يتجلى هذا الهوس في السعي المحموم نحو إنجاز محتوى “مثالي” من حيث الأسلوب، الدقة، القواعد اللغوية، وتناسق الأفكار. غير أن هذه النزعة للكمال لا تعني بالضرورة جودة أعلى، بل قد تؤدي إلى العكس تمامًا: تأجيل دائم، شك ذاتي مزمن، وانعدام الإنتاجية. المقال التالي يُفصّل جذور هذا الهوس، آثاره المدمّرة، ويقدّم استراتيجيات عميقة وعملية للتغلب عليه، بما يمكّن الكاتب المستقل من التحرر والإبداع بثقة.
ما هو هوس الكمال في الكتابة؟
هوس الكمال (Perfectionism) في سياق الكتابة هو شعور داخلي دائم بأن النص لا يزال غير جاهز للنشر، مهما بلغت جودته. الكاتب المثالي يراجع النص عشرات المرات، يتردد في إنهاء مقال، ويقضي وقتًا مفرطًا في تحسين جمل لا يلاحظ القرّاء فرقها. هذا النوع من التفكير لا ينبع من حرص صحي على الجودة، بل من خوف مرضي من الفشل أو الانتقاد أو حتى النجاح.
غالبًا ما يُبنى هذا الهوس على تصورات مثالية عن “الكاتب المثالي” أو “المقال المثالي”، وهي تصورات خيالية لا وجود لها في الواقع المهني. الكاتب الذي يسعى إلى الكمال يضع معايير مستحيلة أمام نفسه، ويجلد ذاته عند كل خطأ بسيط أو سهو لغوي.
الأسباب النفسية والاجتماعية لهوس الكمال
هوس الكمال لا ينشأ من فراغ، بل يتجذر في البنية النفسية للفرد ويُغذّى بالتجارب الاجتماعية والثقافية. من بين أبرز العوامل:
-
التنشئة المبكرة: من نشأ في بيئة لا تقبل إلا التفوق التام أو تعاقب على أقل هفوة، يتعلم ربط الذات بالإنجازات المثالية.
-
الخوف من النقد: بعض الكُتاب يخشون التقييم السلبي لدرجة يفضلون عدم النشر نهائيًا.
-
مقارنة الذات بالآخرين: منصات التواصل تعجّ بنماذج “مثالية” من الكُتاب، ما يخلق شعورًا مزيفًا بالدونية.
-
السوق التنافسي: ضغط الحصول على عملاء وظهورك كمحترف يدفعك لوضع معايير صارمة لا مبرر لها.
-
الهوية المهنية الهشّة: حين يربط الكاتب تقديره لذاته بمدى إعجاب الآخرين بكتاباته، يصبح خائفًا من أي خطأ يُضعف صورته.
الآثار السلبية لهوس الكمال على الكاتب المستقل
يمكن لهوس الكمال أن يقوّض مسيرة الكاتب، خاصة المستقل الذي يُنتج تحت ضغط الوقت والمردود المالي. أبرز الآثار تشمل:
-
تأجيل مزمن في تسليم المشاريع: غالبًا ما يكون الكاتب المثالي بطيئًا جدًا في إنتاج النصوص، ما يضرّ بسمعته ومصداقيته.
-
انخفاض الإنتاجية: الانشغال المفرط بالتفاصيل يستهلك وقتًا وجهدًا غير مبررين.
-
الإجهاد الذهني: الشعور الدائم بعدم الرضا يؤدي إلى إرهاق فكري، وقد ينتهي بالاكتئاب أو القلق المزمن.
-
فقدان المتعة: يتحول فعل الكتابة من متعة إبداعية إلى عبء ثقيل.
-
ضياع الفرص المهنية: مع الوقت، يبتعد العملاء عن الكاتب الذي لا يسلّم في الموعد أو يُبالغ في التفاصيل.
الفرق بين الحرص المهني وهوس الكمال
من المهم التمييز بين الحرص المهني وهوس الكمال. الأول يعني الالتزام بالمعايير التحريرية، مراجعة النصوص، والاهتمام بالجودة. أما الثاني، فيتعلق برغبة مَرَضية في إنتاج محتوى لا يَشوبه شائب، ما يدفع الكاتب للانغماس في مراجعات لا تنتهي.
الكاتب المحترف يقبل بأن لا يوجد نص كامل، وأن اللغة بطبعها مرنة ومفتوحة للتأويل. أما الكاتب المثالي، فيسعى جاهدًا لسد كل “ثغرة” وهمية.
استراتيجيات فعّالة للتغلب على هوس الكمال
1. تبنّي مبدأ “الاكتفاء بالجيد”
قاعدة شهيرة في الإنتاجية تقول: “افعل ما يكفي، ثم انتقل إلى المهمة التالية”. لا يعني ذلك التهاون، بل التوقف عند النقطة التي يكون فيها العمل مناسبًا للنشر، دون إضاعة وقت إضافي في التحسينات التجميلية غير الضرورية.
2. الفصل بين مراحل الكتابة
من أكبر أخطاء الكاتب المثالي محاولة التحرير أثناء الكتابة. من الأفضل فصل المهام إلى ثلاث مراحل:
| المرحلة | الهدف |
|---|---|
| الكتابة الأولية | توليد الأفكار وتحرير النص بحرية |
| التحرير الأول | تحسين البنية والتنظيم والمنطق |
| التحرير الأخير | تصحيح الأخطاء اللغوية والنحوية |
هذا التقسيم يسمح بتركيز الجهد في كل مرحلة، ويخفف من الشعور بالكمال أثناء الإنتاج الأولي.
3. تحديد وقت زمني لكل مهمة
تحديد إطار زمني لكل مقال (مثل ساعتين للكتابة، وساعة للتحرير) يساعد في كسر دوامة المراجعة اللانهائية. استخدام مؤقت أو تقنية “بومودورو” فعّال لضبط النفس والانتقال إلى المهام الأخرى.
4. التقبل الذاتي والمصالحة مع الأخطاء
يجب على الكاتب أن يتصالح مع فكرة أن الأخطاء جزء من العملية الإبداعية. الأخطاء لا تعني الفشل، بل هي مكوّن ضروري للتعلم والتحسن. كل كاتب ناجح يمتلك نصوصًا محرجة كتبها في بداية مشواره.
5. التغذية الراجعة بدلاً من النقد الذاتي
بدلًا من قضاء ساعات في نقد الذات، اطلب رأي شخص آخر موثوق. رأي خارجي يساعدك على رؤية النص بشكل موضوعي، ويمنعك من الوقوع في مصيدة المثالية.
6. بناء روتين كتابة منتظم
الانتظام في الكتابة (يوميًا أو أسبوعيًا) يخفف من وطأة التوقعات. الروتين يبني الثقة، ويُدرّب الدماغ على الإنتاج دون الحاجة للشعور الدائم بالكمال.
7. التركيز على القارئ وليس الذات
الكاتب المثالي يكتب غالبًا لإرضاء صورة مثالية عن نفسه. أما الكاتب المحترف، فيكتب لخدمة القارئ. حين تركز على تقديم فائدة حقيقية للآخر، يقل اهتمامك بالظهور المثالي.
التحول من كاتب مثالي إلى كاتب منتج
عملية التخلص من هوس الكمال ليست لحظية، بل تتطلب وعيًا تدريجيًا وتدريبًا مستمرًا. المفتاح هو أن تدرك أن الكمال غير موجود، وأن القيمة تكمن في النشر، لا في المراجعة اللانهائية. التحوّل إلى كاتب منتج يبدأ من قرارات بسيطة:
-
أن تنشر مقالك ولو لم يكن “كاملًا”.
-
أن تقبل بوجود هامش للخطأ.
-
أن تراجع لتحسين النص، لا لتجميله إلى حد الوهم.
-
أن تحتفي بتقدمك، لا بكمالك.
أثر التحرر من الكمالية على جودة الحياة المهنية
حين يتحرر الكاتب من هوس الكمال، تنقلب المعادلة بالكامل:
-
تزيد الإنتاجية: يمكنه كتابة أكثر من مقال يوميًا دون توتر.
-
تتحسن جودة النصوص مع الوقت: من خلال التراكم والخبرة، لا من خلال التكرار المفرط لنص واحد.
-
يستمتع بالكتابة: لأنها تصبح عملية إبداع لا اختبارًا قاسيًا.
-
يزداد دخله: بسبب قدرته على إنجاز مهام أكثر، بسرعة أكبر، وبجودة كافية للعملاء.
-
يصبح أكثر ثقة: لأنه لم يعد يربط قيمته بجملة مثالية أو فاصلة في غير موضعها.
خلاصة نفسية ومهنية
التحرر من هوس الكمال لا يعني التخلّي عن الجودة، بل يعني احترام الذات والوقت والإبداع. الكمال وهم، لكن التقدّم ممكن، والتحسين مستمر، والتطور يأتي من الجرأة على النشر لا من الجمود خلف شاشة التحرير.
المراجع
-
Frost, R. O., Marten, P., Lahart, C., & Rosenblate, R. (1990). The dimensions of perfectionism. Cognitive Therapy and Research.
-
Burka, J. B., & Yuen, L. M. (2008). Procrastination: Why You Do It, What to Do About It Now. Da Capo Lifelong Books.
-
Brown, B. (2010). The Gifts of Imperfection. Hazelden Publishing.
-
Tal Ben-Shahar (2009). The Pursuit of Perfect. McGraw-Hill.
هل ترغب في إدراج حالات دراسية أو أمثلة من تجارب كُتاب مستقلين عرب لتعزيز المقال أكثر؟
