كيف تقرّر ماذا ستكتب؟
تعدّ عملية تحديد موضوع الكتابة من المراحل الجوهرية التي يمر بها أي كاتب، سواء كان محترفًا أو هاوياً. فهي المرحلة التي تُعدّ أساسًا للمحتوى الذي سينتج في النهاية. في عالم الكتابة، تتعدد الأساليب والطرق التي يمكن من خلالها اتخاذ القرار بشأن الموضوع الذي سيتم الكتابة عنه، ومع ذلك، تظل المبادئ العامة واحدة. لا يتعلق الأمر فقط بإيجاد فكرة يمكن تحويلها إلى مقال، بل بتحديد الموضوع الذي يتناسب مع قدرات الكاتب واهتماماته، ويشبع حاجات الجمهور المستهدف.
تختلف العوامل التي تؤثر في اختيار الموضوع بناءً على العديد من الجوانب. يمكن تلخيص أبرز هذه العوامل في: الرغبة الشخصية، الحاجة السوقية أو المتطلبات التحريرية، والقيم والأهداف التي يسعى الكاتب لتحقيقها من خلال الكتابة. هذه العوامل لا تعمل بمعزل عن بعضها البعض، بل تتداخل في كثير من الأحيان وتؤثر في بعضها البعض، مما يجعل عملية تحديد الموضوع أكثر تعقيدًا.
أولاً: تحديد اهتمامات الكاتب وموارده المعرفية
أحد أهم العوامل التي تحدد ماذا يمكن للكاتب أن يكتب هو اهتماماته الشخصية والمعرفية. إذا كان الكاتب شغوفًا بمجال معين، سواء كان علميًا، ثقافيًا، تقنيًا، أو اجتماعيًا، فإنه سيكون أكثر قدرة على الكتابة عن ذلك الموضوع بعمق واحترافية. الكتابة التي تخرج من قلب الكاتب وعقله عادة ما تكون أكثر إقناعًا، لأنها تعكس شغفه ومؤهلاته الشخصية.
ومع ذلك، لا يعني الاهتمام الشخصي دائمًا أن الموضوع سيكون ذا قيمة للقارئ. ولكن عندما يتطابق شغف الكاتب مع حاجة الجمهور أو اهتماماتهم، يمكن للموضوع أن يُحقق التوازن المثالي بين الإبداع والجاذبية.
من المهم أيضًا أن يمتلك الكاتب المعرفة الكافية حول الموضوع الذي يعتزم الكتابة عنه. فالمعرفة الواسعة تساعد الكاتب على إعطاء الموضوع حقه من التفصيل والتحليل، وتجنب الانزلاق في عموميات سطحية قد تُفقد النص قيمته.
ثانيًا: حاجة الجمهور والاتجاهات الحالية
لا يمكن للكتابة أن تنجح إذا لم تتوافق مع حاجات الجمهور المستهدف. بمعنى آخر، يجب على الكاتب أن يكون مدركًا لما يريده القراء. وعادة ما يتم تحديد ذلك من خلال البحث والتفاعل مع المصادر المختلفة سواء كانت تقارير بحثية، دراسات حالة، أو ردود فعل على منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
تؤثر التوجهات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية أيضًا في تحديد الموضوعات الأكثر طلبًا. على سبيل المثال، في أوقات الأزمات الصحية، مثل جائحة كورونا، يمكن أن تكون الموضوعات المتعلقة بالصحة والعلاج والتقنيات الطبية الأكثر جذبًا للقراء. كما أن القضايا الاجتماعية والبيئية، مثل تغير المناخ أو حقوق الإنسان، تعد من المواضيع التي تجذب القراء في فترات معينة.
في بعض الحالات، قد تقتصر عملية تحديد الموضوع على تلبية متطلبات تحريرية، خصوصًا إذا كان الكاتب يعمل في بيئة تجارية أو أكاديمية حيث يُطلب منه كتابة مقالات بناءً على معايير محددة. هنا، يصبح التركيز منصبًا على تلبية متطلبات القارئ أو الجهة الناشرة بدلًا من اختيار الموضوع بناءً على الاهتمامات الشخصية.
ثالثًا: الأهداف التحريرية والرسالة
عند التفكير في موضوع الكتابة، يجب أن يكون للكاتب هدف واضح. هل يهدف من خلال مقالته إلى توعية القارئ، أم يود تحفيزه على اتخاذ موقف معين؟ ربما يطمح الكاتب إلى تحفيز التغيير الاجتماعي أو حل مشكلة معقدة. قد تكون الأهداف التحريرية مختلفة تمامًا بين كاتب وآخر، ولكن يجب أن تكون دائمًا محددة وموجهة نحو هدف استراتيجي.
قد يكون اختيار الموضوع أيضًا مرتبطًا برسالة أو قضية يريد الكاتب تسليط الضوء عليها. هذه الرسالة تكون نقطة الانطلاق لاختيار الموضوع الذي سيؤطر المقالة أو الكتابة بشكل عام. في بعض الأحيان، تكون الرسالة مستمدة من تجارب شخصية أو محورية في حياة الكاتب، مما يجعل الموضوع أكثر مصداقية وواقعية.
رابعًا: التنوع في أساليب الكتابة والمحتوى
من الضروري أن يكون الموضوع الذي يختاره الكاتب قابلاً للتطوير من خلال أساليب الكتابة المختلفة. على سبيل المثال، يمكن للموضوع أن يتحول إلى مقال علمي، مقال رأي، قصة شخصية، أو حتى بحث ميداني. عند تحديد الموضوع، يجب أن يراعي الكاتب تنوع الأساليب التي يمكنه تطبيقها عليه، حيث أن بعض المواضيع تتطلب الكتابة بأسلوب أكاديمي بحت، في حين أن مواضيع أخرى تتطلب أسلوبًا أكثر تحررًا وغير تقليدي.
التنوع في أساليب الكتابة يساعد على توسيع آفاق الكتابة ويوفر للكاتب الفرصة لتجربة أساليب مختلفة. على سبيل المثال، قد يتناول الكاتب موضوعًا علميًا بأسلوب السرد القصصي لتقديم المعلومات بطريقة أكثر جذبًا للقارئ.
خامسًا: قيود الموضوع وعمقه
تحديد مدى عمق الموضوع هو عامل آخر يجب مراعاته عند اتخاذ القرار بشأن الكتابة. يمكن لبعض المواضيع أن تكون واسعة جدًا بحيث يصعب معالجتها في مقال واحد، بينما قد تكون مواضيع أخرى ضيقة ومحددة بشكل قد يجعل من الكتابة عنها تحديًا من حيث القدرة على التطوير أو إضافة قيمة جديدة.
عند تحديد موضوع ما، من الضروري أن يكون لدى الكاتب فكرة واضحة عن نطاق الموضوع ومدى التفاصيل التي يمكنه تضمينها. كما يجب أن يكون قادراً على التنبؤ بأن هذا الموضوع سيظل قادرًا على جذب اهتمام القراء في المستقبل.
سادسًا: المتطلبات اللغوية والصياغة
اللغة هي أداة الكاتب الأساسية، ولذلك يجب أن يختار الكاتب مواضيع يمكنه صياغتها بلغة فصيحة وقوية، تساهم في إيصال المعنى بدقة ووضوح. بعض المواضيع قد تتطلب مهارات لغوية خاصة مثل الكتابة الأدبية أو الكتابة التقنية، بينما يمكن للمواضيع الأخرى أن تتطلب أسلوبًا بسيطًا ومباشرًا.
على الكاتب أن يكون حريصًا على توظيف الأسلوب المناسب لكل موضوع، بحيث لا يفقد النص قيمته أو رسالته بسبب أسلوب غير ملائم.
سابعًا: الإلهام والتجربة الشخصية
أحيانًا، يعتمد قرار اختيار الموضوع على الإلهام الشخصي أو تجارب الحياة. يمكن أن تكون التجربة الشخصية أحد أقوى المحفزات لاختيار موضوع الكتابة. فقد يجد الكاتب نفسه في موقف أو تجربة معينة يرغب في مشاركتها مع الآخرين. هذا النوع من الكتابة قد يكون ذا طابع مؤثر وعاطفي، كما يمكن أن يخلق رابطًا قويًا بين الكاتب والقارئ.
الخاتمة
يظل اختيار الموضوع جزءًا أساسيًا في عملية الكتابة. وهو يتطلب مزيجًا من التفكير العميق حول اهتمامات الكاتب واحتياجات الجمهور، فضلاً عن تقييم الأهداف التحريرية والقدرة على تطوير الموضوع بأسلوب مناسب. تتداخل العوامل الشخصية مع العوامل الخارجية في كثير من الأحيان، مما يجعل اختيار الموضوع عملية معقدة تتطلب التفكير والتنفيذ الدقيق. في النهاية، مهما كانت العوامل التي تؤثر في هذا القرار، فإن الكتابة الناجحة هي التي تكون نابضة بالحياة، وغنية بالمعلومات، وقادرة على إحداث تأثير إيجابي على القارئ.
