البوصيري ومدح الرسول في البردة

قصيدة البوصيري في مدح الرسول

تُعد قصيدة “البردة” للإمام البوصيري من أشهر وأجمل القصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ يُعتبر هذا النص الأدبي واحداً من أرقى وأروع ما قيل في مدح النبي الكريم. تكمن أهمية هذه القصيدة في كونها ليست مجرد نص ديني، بل هي أيضًا عمل أدبي مليء بالصور البلاغية والخيال الواسع الذي يعكس عمق حب الشاعر لرسول الله، وجلال مقامه، وتقديره للصفات النبيلة التي كان يتحلى بها.

حياة الإمام البوصيري

البوصيري هو الإمام محمد بن سعيد بن حماد، وُلد في عام 608 هـ في مدينة بوصير بمصر، وهي التي استمد منها لقبه “البوصيري”. كان من أسرة متواضعة، وظهرت مواهبه الشعرية في وقت مبكر من حياته. استطاع أن ينال شهرة واسعة بفضل ما امتلكه من براعة في الشعر العربي، فضلاً عن تمكنه من علوم الأدب والبلاغة. وقد عُرف بتقديمه للأدب العربي الإسلامي الذي يُدمج بين الشعر والتصوف. كان البوصيري في بداية حياته يعيش في ظل صعوبات وتحديات صحية، حيث تعرض لمرض شاق ألزمته الفراش لفترة طويلة. في أثناء هذه المحنة، رَزَقه الله تعالى إلهاماً وشعوراً عظيماً بنعمة النبوة، فانبعثت في قلبه مشاعر متوهجة بالحب لرسول الله، ونتج عن ذلك كتابة القصيدة الشهيرة “البردة”.

قصة كتابة البردة

يروى أن الإمام البوصيري أصيب بمرض شديد جعله طريح الفراش، وعجز الأطباء عن علاجه. وفي تلك اللحظات من الضعف الجسدي والنفسي، انتابته حالة من الحزن الشديد، ولكن تجلت له رؤيا في منامه. ففي تلك الرؤيا، ظهر له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع بردته عليه، فاستفاق البوصيري من نومه، ليجد نفسه قد شُفي تماماً. وفي لحظة الإلهام هذه، قرر أن يكتب قصيدته الشهيرة “البردة” التي كانت تجسد مشاعر الشكر والحب والتقدير للنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت هذه القصيدة بمثابة تعبير فني عن شفاء روحه وجسده ببركة الحبيب المصطفى.

هيكل القصيدة ومضامينها

قصيدة “البردة” تتألف من مئة بيت شعر، وهي مكتوبة باللغة العربية الفصحى وبأسلوب شعري مميز. تضم القصيدة العديد من الأبيات التي يتغنى فيها البوصيري بجمال صفات النبي صلى الله عليه وسلم، وتُظهر محبته العميقة لرسول الله. تتراوح القصيدة بين الحديث عن النبوة وعظمة مكانة النبي، وبين وصف لحياة النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وأخلاقه.

الأبيات المفتاحية

من أبرز الأبيات التي تميز القصيدة:

“محمدٌ سيدُ الكونينِ والثقلينِ
والفريقينِ من عربٍ ومن عجمِ”

يبدأ البوصيري قصيدته بتعريف النبي صلى الله عليه وسلم كزعيم وسيد لكل الخلق، سواء من البشر أو الجن، بلغة رقيقة وشفافة، تبرز جلالة ومقام النبي الكريم. فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في نظر البوصيري هو “سيد الكونين”، أي أنه سيد الدنيا والآخرة، وبالتالي فإن له مقاماً عالياً يفوق كل المقامات.

“ما جاءنا من شوقٍ إليها قلبي
إلا ومضى مع الطيرِ في السماءِ”

هذه الأبيات تعبّر عن الشوق العميق الذي يشعر به الشاعر تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعبر عن الرغبة في الاقتراب من نوره، والعيش في ظل عظمته. يصف الشاعر ذلك الشوق وكأن قلبه يطير مع الطيور إلى السماء، في إشارة إلى أن حب النبي هو من أقوى أنواع الحب التي يمكن أن يشعر بها الإنسان.

“إذا ذكرتهُ في الأرضِ جاء الجوابُ
من السماء عند الغيبِ”

هنا، يذكر البوصيري قدرة النبي صلى الله عليه وسلم على الاستجابة لمناجات ومحبة المؤمنين له. فمتى ذكره المسلمون في الأرض، كانت السماء تُجيب على هذه الذكرى بمزيد من النعم والبركات.

الأسلوب البلاغي في القصيدة

تُعد قصيدة “البردة” من أروع الأعمال الأدبية من حيث الأسلوب البلاغي، إذ تتسم بالبلاغة والفصاحة. اعتمد البوصيري في قصيدته على عدد من الأساليب الشعرية مثل الاستعارة، والمجاز، والتشبيه، والتكرار، وهي أساليب ساعدت في إبراز عظمة النبي صلى الله عليه وسلم. على سبيل المثال، في وصفه للرسول بأنه “سيد الكونين”، يتبع أسلوب المبالغة ليؤكد على عظمة مقام النبي في قلوب المؤمنين، ويُظهر جلالته في هذه الألفاظ القوية.

المكانة الدينية والثقافية للقصيدة

قد كانت قصيدة البوصيري “البردة” واحدة من أكثر القصائد التي حظيت بمكانة كبيرة في العالم الإسلامي، وقد نُشرت في العديد من الأماكن، وقرئت في المساجد في مناسبات كثيرة. وانتشرت بشكل واسع، فصارت جزءاً من التقاليد الدينية لدى العديد من المسلمين، حتى أُلفت العديد من التفاسير والتعليقات على القصيدة. كما أن القصيدة تُعد مرجعاً ثقافياً ودينياً في العديد من المدارس الأدبية الإسلامية.

وقد أصبح الإمام البوصيري معروفاً في الأوساط الأدبية والدينية، حيث كان يُعتبر من شعراء المدح النبوي المبدعين. تكررت قراءة “البردة” في احتفالات المولد النبوي في العديد من الدول الإسلامية، مما جعلها تُخلّد في الذاكرة التاريخية.

التأثيرات الروحية للقصيدة

من بين جوانب الجمال في قصيدة “البردة” أنها لا تقتصر فقط على كونها نصاً شعرياً عظيماً، بل تُعتبر أيضاً مصدراً للروحانية والتأمل. فالقصيدة تعكس حباً عميقاً وشوقاً لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، وقد أثرت هذه الكلمات في العديد من المسلمين على مر العصور. يعكف العديد من الناس على قراءة هذه القصيدة في أوقات معينة من السنة، خاصة في مناسبة المولد النبوي، لما لها من تأثير في تهدئة النفس وتنقية الروح.

الخاتمة

قصيدة “البردة” للإمام البوصيري هي من أروع وأعظم القصائد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ليست مجرد نص شعري بل هي تجسيد لروح المحبة والولاء للنبي الكريم. هي قصيدة تجمع بين البلاغة في التعبير، والفن في التصوير، وبين عمق المعاني التي تلامس قلب كل مؤمن. إذ تعكس في كل بيت من أبياتها حب البوصيري العميق والشديد لرسول الله، كما أنها تُعد مرجعاً أدبياً ودينياً يُحتفى به في كل مكان وزمان.