تأثير الكحول على الأعصاب

تأثير الكحول على الجهاز العصبي

تُعد الكحول من المواد النفسية الفعالة التي تؤثر بشكل مباشر على وظائف الدماغ والجهاز العصبي المركزي، وهي بذلك تشكل خطراً داهماً على الصحة العصبية والوظائف الحيوية المرتبطة بها. يستهلك ملايين البشر الكحول لأسباب اجتماعية أو نفسية أو ثقافية، إلا أن الدراسات العلمية والطبية الحديثة أظهرت بشكل قاطع أن الاستخدام المزمن أو المفرط للكحول يؤدي إلى تأثيرات ضارة وعميقة على الدماغ والأعصاب، تتراوح من التغيرات المؤقتة في السلوك والتفكير إلى تلف دائم في البنية العصبية والوظائف الإدراكية.

تؤثر الكحول على الجهاز العصبي من خلال عدة آليات بيوكيميائية وفيزيولوجية معقدة، تبدأ من التأثير المباشر على مستقبلات الأعصاب وحتى تدهور بنية الخلايا العصبية ذاتها. وتختلف حدة هذه التأثيرات تبعاً لعوامل مثل كمية الكحول المستهلكة، مدة الاستهلاك، الفئة العمرية، الجنس، والتكوين الوراثي للفرد.

التأثيرات الفورية للكحول على الجهاز العصبي

عند تناول الكحول، يتم امتصاصه سريعاً من المعدة والأمعاء إلى مجرى الدم، ومن ثم يعبر الحاجز الدموي الدماغي ليصل إلى الدماغ، حيث يبدأ تأثيره شبه الفوري على الخلايا العصبية. تشمل التأثيرات الفورية ما يلي:

1. تباطؤ النشاط العصبي

الكحول يعمل كمثبط للجهاز العصبي المركزي من خلال زيادة نشاط مستقبلات حمض غاما أمينوبيوتيريك (GABA)، وهو ناقل عصبي مثبط، ما يؤدي إلى إبطاء سرعة الإشارات العصبية، وبالتالي التأثير على وظائف مثل التنسيق الحركي، الحكم العقلي، والتركيز.

2. ضعف التنسيق الحركي والتوازن

تتأثر منطقة المخيخ، المسؤولة عن تنسيق الحركات والتوازن، بشكل كبير بتأثير الكحول، مما يؤدي إلى فقدان التوازن والترنح، وهو من أبرز الأعراض الملاحظة في حالات التسمم الكحولي.

3. تغيرات في المزاج والإدراك

يعزز الكحول إفراز الدوبامين في مناطق الدماغ المرتبطة بالمكافأة، مما يؤدي إلى شعور مؤقت بالبهجة والراحة النفسية، يليها غالباً تقلبات مزاجية، شعور بالقلق أو حتى الاكتئاب في مراحل لاحقة من التسمم.

4. اضطراب الذاكرة المؤقت

يؤثر الكحول على منطقة الحُصين (Hippocampus) المسؤولة عن تكوين الذكريات، ما يؤدي إلى ما يُعرف بفقدان الذاكرة المؤقت أو الـ”blackout”، حيث ينسى الشخص ما حدث خلال فترة التسمم.

التأثيرات المزمنة للكحول على الجهاز العصبي

الاستهلاك المزمن للكحول يتسبب في تلف دائم ومتفاقم في البنية العصبية، ويتجلى ذلك في عدة مظاهر مرضية وعصبية:

1. الاعتلال العصبي الكحولي (Alcoholic Neuropathy)

يؤدي التعرض المزمن للكحول إلى تلف في الأعصاب الطرفية، وتظهر الأعراض على شكل تنميل، وخز، ضعف عضلي، آلام حارقة في الأطراف، وصعوبة في المشي أو التنقل.

2. متلازمة فيرنيكه-كورساكوف (Wernicke-Korsakoff Syndrome)

تُعد من أخطر المضاعفات العصبية المرتبطة بإدمان الكحول، وتنجم عن نقص فيتامين B1 (الثيامين). تتضمن مرحلتين:

• متلازمة فيرنيكه: حالة حادة تتصف بالارتباك العقلي، شلل عضلات العين، وترنح في المشي.

• متلازمة كورساكوف: حالة مزمنة تتسم بفقدان الذاكرة التقدمي، صعوبة في تكوين ذكريات جديدة، وخلق ذكريات وهمية (الكونفيبولاسيون).

3. ضمور الدماغ

أثبتت التصويرات العصبية (مثل الرنين المغناطيسي) أن الكحول يؤدي إلى تقلص حجم الدماغ، خاصة في الفص الجبهي المسؤول عن التخطيط، اتخاذ القرارات، والمراقبة السلوكية. وتزداد هذه التغيرات مع تقدم العمر والاستهلاك الطويل.

4. اضطرابات النوم والمزاج

الإفراط في شرب الكحول يؤدي إلى خلل في دورة النوم الطبيعية (نوم حركة العين السريعة)، كما يساهم في ظهور الاكتئاب، القلق، والاضطراب ثنائي القطب، حيث يتداخل الكحول مع كيمياء الدماغ العصبية بشكل يعوق التوازن العاطفي.

الآثار العصبية للكحول على الأجنة

أحد أخطر التأثيرات المعروفة للكحول على الجهاز العصبي هو ما يُعرف بمتلازمة الجنين الكحولي (Fetal Alcohol Syndrome)، والتي تحدث عندما تستهلك المرأة الحامل الكحول خلال الحمل، ما يؤدي إلى إصابة الجنين بتشوهات دماغية دائمة.

تشمل التأثيرات العصبية لهذه المتلازمة:

• تأخر عقلي وتنموي

• اضطرابات سلوكية شديدة

• عيوب في البنية الدماغية

• صعوبات في التعلم والتواصل الاجتماعي

ويعود ذلك إلى أن الكحول يعبر بسهولة المشيمة، ويؤثر على نمو الخلايا العصبية للجنين، مما يؤدي إلى موتها أو توقف انقسامها.

الجدول التالي يوضح مقارنة بين تأثيرات الكحول الحادة والمزمنة على الجهاز العصبي:

التأثيرات الكيميائية الحيوية للكحول على الجهاز العصبي

من الناحية الكيميائية، يتفاعل الكحول مع عدة أنظمة عصبية تؤثر على الناقلات العصبية الأساسية، منها:

• نظام GABA: يثبط عمل الخلايا العصبية مما يؤدي إلى التهدئة والخمول.

• نظام الجلوتامات: يقلل الكحول من نشاط مستقبلات NMDA، مما يضعف الوظائف المعرفية والتعلم.

• نظام الدوبامين: يحفز الشعور بالمكافأة، ما يجعل الكحول مادة مسببة للإدمان.

• نظام السيروتونين: يؤثر على المزاج والنوم، مما يفسر ارتباط الكحول بالقلق والاكتئاب.

إدمان الكحول وتأثيره على الجهاز العصبي

يتطور الإدمان نتيجة للتفاعل بين العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية، ويترافق مع تغييرات هيكلية في الدماغ، حيث يُعيد الكحول تشكيل نظام المكافأة العصبي، مما يجعل الشخص غير قادر على الشعور بالمتعة دون استهلاكه. يؤدي ذلك إلى:

• ضعف في الأداء التنفيذي للدماغ

• خلل في ضبط النفس واتخاذ القرار

• زيادة التحسس للمثيرات المرتبطة بالكحول

• فقدان القدرة على التوقف رغم العواقب الصحية والاجتماعية

تعافي الجهاز العصبي بعد التوقف عن الكحول

تشير الدراسات إلى أن التوقف المبكر عن الكحول يمكن أن يعكس بعض التغيرات السلبية في الدماغ، خاصة إذا لم تصل إلى مرحلة الضرر الهيكلي. ويشمل التحسن:

• استعادة حجم المادة الرمادية تدريجياً

• تحسن في الذاكرة والانتباه خلال 6 أشهر إلى سنة

• انخفاض في أعراض القلق والاكتئاب

• تحسن في النوم والتوازن الحركي

غير أن بعض التأثيرات قد تبقى دائمة، خاصة إذا كان الشخص قد عانى من اعتلال عصبي أو ضمور شديد في الدماغ.

الخلاصة العلمية

يتجلى تأثير الكحول على الجهاز العصبي المركزي في تدهور واسع النطاق يشمل الوظائف الحركية، المعرفية، الحسية، والسلوكية. ويُعتبر الاستهلاك المزمن والمفرط للكحول عاملاً رئيسياً في ظهور مجموعة من الاضطرابات العصبية الخطيرة، أبرزها الاعتلال العصبي، فقدان الذاكرة، الضمور الدماغي، ومشاكل المزاج والنوم. كما لا يقتصر الضرر على الأفراد فقط، بل يمتد ليشمل الأجنة المعرضين للكحول أثناء الحمل، مما يعرضهم لتلف دماغي دائم.

إن هذا التأثير الشامل والمعقد للكحول يجعل من الضروري رفع مستوى الوعي الصحي والنفسي، وتشجيع السياسات الوقائية والعلاجية المستندة إلى الأدلة العلمية، لمواجهة التأثيرات العصبية والوظيفية بعيدة المدى الناتجة عن استهلاك هذه المادة الخطيرة.

المراجع:

1. Oscar-Berman M, Marinković K. Alcoholism and the brain: An overview. Alcohol Res Health. 2003;27(2):125-133.

2. Harper C. The neuropathology of alcohol-related brain damage. Alcohol Alcohol. 2009;44(2):136–140.