سيادة الأتراك على الحكم في العصر العباسي الثاني
يعد العصر العباسي الثاني من الفترات المهمة في تاريخ الدولة العباسية، حيث شهد تحولات جوهرية على مستوى السلطة والسياسة، ولعب الأتراك دوراً حاسماً في تلك المرحلة. ارتبطت سيادة الأتراك في الحكم العباسي الثاني بتقلبات سياسية وعسكرية أدت إلى تراجع قوة الخلفاء العباسيين الفعليين وازدياد نفوذ القوى العسكرية التركية التي سيطرت على معظم مفاصل الحكم في بغداد والمدن الكبرى.
1. تاريخ خلفية عن الدولة العباسية في العصر الثاني
تأسست الدولة العباسية في العام 750م على يد أبي مسلم الخراساني، وكان هدفها الأساسي هو الإطاحة بالحكم الأموي الذي ساد طوال قرن من الزمن. ومع مرور الوقت، بدأت السلطة العباسية تشهد تراجعاً في قوتها السياسية، وكان ذلك نتيجة للعديد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية التي أبرزت تفكك السلطة المركزية.
شهدت الدولة العباسية في الفترة الأولى من حكمها ازدهاراً حضارياً ملحوظاً، خاصة في المجالات العلمية والفنية والثقافية. لكن بداية من القرن التاسع الميلادي، وبالتحديد مع نهاية حكم الخليفة المتوكل في عام 861م، بدأت تظهر مشاكل داخلية أضعفت من سيطرة الخلفاء العباسيين على مختلف أنحاء الدولة.
2. الصعود العسكري للأتراك
منذ بداية العصر العباسي الثاني، كانت هناك حاجة ملحة إلى قوات عسكرية موالية قوية لحماية الدولة من التهديدات الداخلية والخارجية. ومع تزايد عدد الغزوات والهجمات على الدولة العباسية من قبل الفرق والطوائف المختلفة، وجد الخلفاء العباسيون أنفسهم مضطرين لتوظيف الجنود الأتراك من مختلف المناطق، وخاصة من أواسط آسيا. هؤلاء الجنود بدأوا في التزايد داخل جيوش الخلفاء العباسيين حتى أصبحوا جزءاً مهماً من التركيبة العسكرية للحكومة.
في البداية، كان الأتراك مجرد قوات مرتزقة يُستعان بها في الحملات العسكرية أو في الدفاع عن ثغور الدولة. ولكن سرعان ما بدأوا يكتسبون نفوذاً متزايداً داخل البلاط العباسي بسبب قوتهم العسكرية وولائهم للخلفاء العباسيين. ومع مرور الوقت، تحول هؤلاء الأتراك إلى لاعب رئيسي في السياسية العباسية.
3. استحواذ الأتراك على السلطة
بدأ الأتراك في الحصول على المزيد من السلطة السياسية بداية من منتصف القرن التاسع الميلادي، عندما قام الخليفة المعتصم (833-842م) بتعيين الجنرال التركي “أحمد بن طولون” قائدًا على جيوشه. كانت خطوة المعتصم بمثابة بداية لتحول كبير في هيكل السلطة داخل الدولة العباسية. حيث أتاح للجنرالات الأتراك فرصة التحرك بحرية أكبر في السياسة العسكرية والإدارية.
وفي عهد الخليفة المتوكل، كان الأتراك قد أصبحوا القوة العسكرية المهيمنة داخل البلاط العباسي. قد ازدادت أعدادهم إلى حد كبير، مما سمح لهم بتولي المناصب الحساسة في الدولة. كان الأتراك يشكلون أقوى كتلة في الجيش العباسي، وكانوا يعينون ولاة على مختلف المناطق في الدولة. ولذا، بدأ الخليفة المتوكل في الاعتماد بشكل متزايد على هؤلاء الجنرالات الأتراك للحفاظ على الأمن الداخلي وتثبيت سلطته.
4. دور الأتراك في الحكم بعد المعتصم
بعد وفاة الخليفة المعتصم، دخلت الدولة العباسية في مرحلة من الفوضى السياسية، حيث أصبح الخلفاء العباسيون يتعرضون لتحديات متزايدة في السيطرة على السلطة. لقد تميزت فترة الخلفاء العباسيين في العصر الثاني بضعف مركزي واضح، مما دفع الأتراك إلى زيادة نفوذهم في مختلف المناطق.
وظهر ذلك بشكل جلي في فترة الخليفة الواثق بالله (842-847م)، حيث كانت سلطة الخليفة هي مجرد غطاء شكلي، بينما كانت السلطة الفعلية في يد القادة العسكريين الأتراك. هؤلاء القادة أصبحوا يشكلون طبقة نبلاء قوية بفضل قوتهم العسكرية، وأصبح لهم تأثير كبير في شؤون البلاط العباسي.
5. الحكم التركي الفعلي ومرحلة الإمارة التركية
في العصر العباسي الثاني، أصبح الأتراك يهيمنون على معظم جوانب الحكم، وكان من أبرز القادة العسكريين الذين تولوا قيادة الدولة في تلك الفترة هو “البويهيون”. كان البويهيون، وهم سلالة تركية شيعية، قد تمكنوا من السيطرة على بغداد في عام 945م، حيث أصبحوا الأوصياء الفعليين على الخلافة العباسية. ورغم أن الخلفاء العباسيين ظلوا موجودين في بغداد، فإنهم أصبحوا مجرد رموز دينية بلا تأثير سياسي حقيقي.
تُظهر الفترة البويهيّة كيف أن الأتراك استمروا في تعزيز قوتهم، وتحولت الدولة العباسية إلى دولة ذات سيادة شكلية دون أن يكون لها تأثير حقيقي على الأحداث. وقد أضفى هذا الوضع الشرعية على الإمارة التركية في الشرق الأوسط، حيث أصبحت القوى العسكرية التركية هي القوى الوحيدة التي تقرر مصير الخلافة العباسية.
6. إدارة الأتراك لمناطق الدولة العباسية
من خلال سيطرتهم على الجيش ومؤسسات الدولة، نجح الأتراك في إدارة المناطق الهامة داخل الدولة العباسية. ومع تزايد نفوذهم، أصبحوا يمارسون السلطة بشكل غير رسمي على خلفاء العباسيين الذين تحولوا إلى أداة تستخدمها القوى التركية لتحقيق مصالحهم. ولم تقتصر سلطتهم على بغداد فقط، بل امتد نفوذهم إلى مختلف المناطق التي كانت تحت سيطرة العباسيين، مثل خراسان والشام ومصر.
وكانت إحدى الظواهر البارزة في هذه الفترة هي تعيين الأتراك لحكام على هذه المناطق، مما أتاح لهم مزيداً من السيطرة السياسية والاقتصادية. على الرغم من أن الخليفة العباسي كان يظل شكلياً هو الحاكم الأعلى، إلا أن الأتراك كانوا يديرون شؤون الدولة عملياً.
7. آثار الحكم التركي على الدولة العباسية
إن الحكم التركي على الدولة العباسية كان له آثار عميقة على مختلف المستويات. على الصعيد العسكري، تمكن الأتراك من الحفاظ على استقرار الدولة العباسية في مواجهة التهديدات المستمرة من قبل الجيوش الخارجية. ولكن على الصعيد السياسي، كان تراجع سلطة الخلفاء العباسيين يعني فقدان الدولة العباسية لوحدتها المركزية وتماسكها الداخلي.
فيما يتعلق بالثقافة والفكر، كانت السيطرة التركية على الدولة العباسية تعني أن الخلفاء العباسيين أصبحوا أقل تأثيراً على الأبعاد الثقافية والفكرية للدولة. على الرغم من أن العباسيين ظلوا مؤثرين في العديد من المجالات مثل العلوم والفلسفة، إلا أن تأثيرهم الثقافي كان أقل بكثير من تأثيرهم في الفترات السابقة.
8. انتهاء هيمنة الأتراك على الدولة العباسية
مع مرور الوقت، بدأ الضعف يشمل القوى التركية التي هيمنت على الدولة العباسية. في القرن الحادي عشر، وبالتحديد في فترة حكم السلاجقة، كان للأتراك دور أكبر في السياسة العباسية. ولكن مع صعود القوى الجديدة مثل الفاطميين والمماليك، انتهت هيمنة الأتراك على الخلافة العباسية.
على الرغم من أن الخلفاء العباسيين ظلوا في بغداد لفترة طويلة بعد ذلك، فإن قدرتهم على التأثير في الأحداث أصبحت شبه معدومة. وقد انتهى حكم العباسيين في بغداد في عام 1258م عندما اجتاحت جيوش المغول بقيادة هولاكو المدينة، مما أدى إلى سقوط الخلافة العباسية بشكل نهائي.
9. خلاصة
لقد كانت سيادة الأتراك على الحكم في العصر العباسي الثاني أحد التحولات الكبرى التي شهدتها الدولة العباسية. من خلال توظيفهم القوي في الجيش، وتزايد نفوذهم السياسي، أصبح الأتراك القوة الحقيقية التي تتحكم في الدولة العباسية. ولكن في النهاية، رغم نجاحهم في تحقيق الاستقرار العسكري، فإنهم لم يتمكنوا من الحفاظ على الوحدة السياسية والثقافية للدولة العباسية التي تراجعت بشكل كبير في هذا العصر.
