هل يُصاب الأطفال بالمرض النفسي؟

تُعدّ الصحة النفسية جزءًا لا يتجزأ من الصحة العامة للإنسان، ولا تقتصر الاضطرابات النفسية على البالغين فقط، بل يمكن أن تصيب الأطفال أيضًا منذ سن مبكرة. ولعلّ من أكبر التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة هي ضعف الوعي بوجود أمراض نفسية عند الأطفال، والخلط بين السلوكيات الطبيعية في مراحل النمو المختلفة والسلوكيات الدالة على وجود اضطراب نفسي حقيقي. من هنا، تبرز أهمية التطرق إلى هذا الموضوع من منظور علمي شامل لفهم ماهية الأمراض النفسية عند الأطفال، أسبابها، أعراضها، طرق تشخيصها، وعلاجها، إضافة إلى تأثيراتها بعيدة المدى على حياة الطفل والأسرة والمجتمع.

تعريف المرض النفسي عند الأطفال

المرض النفسي عند الأطفال يُشير إلى مجموعة من الاضطرابات التي تؤثر على الطريقة التي يشعر بها الطفل، ويفكر ويتصرف ويتفاعل بها مع من حوله. قد يظهر هذا التأثير في المدرسة، وفي العلاقات مع الأقران، أو ضمن الأسرة. وتختلف هذه الاضطرابات من حيث الدرجة والنوع، إذ تتراوح من القلق والاكتئاب، إلى اضطرابات سلوكية شديدة مثل اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD)، واضطراب السلوك العدواني، واضطراب طيف التوحد، واضطرابات الأكل، وغيرها.

الانتشار والإحصائيات

تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن واحدًا من كل سبعة أطفال في العالم يعاني من اضطراب نفسي. وتبدأ نصف الأمراض النفسية تقريبًا قبل سن 14 عامًا، إلا أن أغلب الحالات لا يتم تشخيصها أو معالجتها في الوقت المناسب. هذا التأخر في التشخيص يعود إلى عدة عوامل، من بينها عدم وعي الأهل بالأعراض، ووصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية، وضعف الخدمات المتخصصة في رعاية الأطفال نفسيًا.

الأسباب المؤدية للإصابة بالأمراض النفسية عند الأطفال

1. العوامل الوراثية والبيولوجية

الوراثة تلعب دورًا كبيرًا في احتمالية إصابة الطفل بمرض نفسي. فالأطفال الذين لديهم تاريخ عائلي من الاكتئاب أو القلق أو اضطرابات نفسية أخرى يكونون أكثر عرضة للإصابة. كما أن بعض الاضطرابات النفسية ترتبط بتغيرات بيولوجية في كيمياء الدماغ، مثل اضطرابات إفراز النواقل العصبية (السيروتونين، الدوبامين، النورأدرينالين).

2. العوامل البيئية والاجتماعية

البيئة التي ينشأ فيها الطفل تُعد عاملاً حاسمًا. فالتعرض المستمر للعنف الأسري، أو الإهمال، أو الاعتداء الجسدي أو الجنسي، أو فقدان أحد الوالدين، أو العيش في بيئة فقيرة مليئة بالصراعات والتوتر، يمكن أن يخلق أرضًا خصبة لتطور الأمراض النفسية. كذلك، فإن التنمر في المدرسة أو المجتمع قد يؤدي إلى اضطرابات نفسية حادة.

3. المشكلات الصحية الجسدية

الإصابة بأمراض مزمنة في الطفولة مثل الصرع، أو السكري، أو السرطان، قد تُرافقها مشكلات نفسية ناتجة عن التوتر المستمر والتغيرات في نمط الحياة. كما أن وجود إعاقة عقلية أو جسدية قد يزيد من احتمالية تعرض الطفل للقلق والاكتئاب.

4. التجارب الصادمة في الطفولة

الطفل الذي يتعرض لحوادث مروعة مثل الحروب، الكوارث الطبيعية، أو مشاهدة حوادث مميتة قد يطور اضطراب الكرب ما بعد الصدمة (PTSD). هذه الحالات تتطلب تدخلاً نفسيًا متخصصًا لعلاج الطفل وتخفيف الأثر طويل الأمد.

أبرز أنواع الأمراض النفسية عند الأطفال

الأعراض العامة للمرض النفسي عند الأطفال

يصعب أحيانًا تمييز أعراض الاضطرابات النفسية عند الأطفال لأنها قد تُفهم على أنها سلوكيات طبيعية في سن معينة. إلا أن استمرار الأعراض لمدة طويلة، وتأثيرها على الأداء اليومي، هو ما يُنبئ بوجود اضطراب نفسي. أبرز الأعراض تشمل:

• تقلبات مزاجية حادة أو مفرطة

• الانسحاب الاجتماعي وعدم الرغبة في اللعب أو التفاعل

• نوبات غضب متكررة وغير مبررة

• اضطرابات في النوم أو الكوابيس المتكررة

• تراجع في الأداء الدراسي

• أعراض جسدية دون سبب عضوي (مثل آلام المعدة أو الصداع)

• سلوكيات إيذاء الذات أو التفكير في الموت

• التبول اللاإرادي بعد سن مناسبة

أهمية التشخيص المبكر

كلما تم تشخيص المرض النفسي مبكرًا، كانت فرص نجاح العلاج أكبر. التشخيص لا يقتصر على الفحص الطبي، بل يتطلب تقييمًا نفسيًا وسلوكيًا معمقًا يشمل مقابلات مع الطفل، الأهل، والمعلمين، إلى جانب ملاحظات سريرية واختبارات نفسية معيارية. الهدف من التشخيص هو تحديد نوع الاضطراب، درجته، وتأثيره على الحياة اليومية للطفل.

طرق العلاج المتوفرة

1. العلاج السلوكي المعرفي (CBT)

يُعد هذا النوع من العلاج النفسي من أكثر الأساليب فاعلية في علاج اضطرابات القلق والاكتئاب والوسواس القهري عند الأطفال. يُساعد الطفل على التعرف إلى أفكاره السلبية وتعديلها، كما يُعزز استراتيجيات التأقلم والتفكير الإيجابي.

2. العلاج باللعب

أسلوب يُستخدم مع الأطفال الصغار الذين لا يستطيعون التعبير عن مشاعرهم بالكلام. من خلال اللعب، يستطيع المعالج النفسي أن يستشف مشاعر الطفل واحتياجاته ويُساعده على تخفيف التوتر والصراعات الداخلية.

3. العلاج الأسري

في كثير من الحالات، يكون التدخل في إطار الأسرة ضروريًا. يساعد العلاج الأسري على تحسين التفاعل بين أفراد الأسرة، ويعزز مهارات التواصل، ويقلل من السلوكيات السلبية التي تؤثر على الطفل.

4. العلاج الدوائي

في حالات معينة، مثل الاكتئاب الشديد أو اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه، يمكن أن يُوصي الطبيب باستخدام أدوية نفسية، ولكن تحت إشراف دقيق وبالجرعات المناسبة للفئة العمرية.

5. الدعم المدرسي

تلعب المدرسة دورًا كبيرًا في دعم الصحة النفسية للطفل. يجب على المعلمين ومرشدي المدارس أن يكونوا مدربين على التعرف إلى علامات الاضطراب النفسي، والتعاون مع الأهل والأخصائيين النفسيين لتقديم بيئة تعليمية آمنة وداعمة.

تأثير المرض النفسي غير المعالج

عدم علاج المرض النفسي عند الأطفال قد يقود إلى عواقب خطيرة، من بينها:

• الفشل الدراسي والانقطاع عن التعليم

• صعوبة في بناء علاقات اجتماعية صحية

• ارتفاع خطر الإدمان في المراهقة والبلوغ

• زيادة خطر الانتحار في الحالات الشديدة

• آثار طويلة الأمد على الوظائف النفسية والاجتماعية في مرحلة البلوغ

أهمية الوقاية والرعاية النفسية المبكرة

الوقاية من الأمراض النفسية لا تقل أهمية عن العلاج. ينبغي تعزيز صحة الطفل النفسية من خلال:

• توفير بيئة أسرية مستقرة وداعمة

• بناء علاقات قائمة على الحب والاحترام

• تشجيع التعبير عن المشاعر وعدم كبتها

• مراقبة سلوكيات الطفل وتغيراته بعناية

• تدريب المعلمين والمربين على التفاعل النفسي السليم مع الأطفال

• الاستعانة بخبراء نفسيين عند الحاجة دون تأخير أو تردد

الختام

الصحة النفسية للطفل ليست ترفًا، بل ضرورة لا غنى عنها لضمان نموه السليم وتطوره المتوازن. إدراك المجتمع لأهمية هذا الجانب، والتعامل مع الأمراض النفسية عند الأطفال بوعي ورُشد، هو ما يُشكّل أساس بناء أجيال قادرة على التفاعل مع الحياة بثقة واستقرار. الاعتراف بأن الطفل يمكن أن يُصاب بمرض نفسي هو الخطوة الأولى نحو العلاج والشفاء، وإرساء قواعد مجتمع سليم نفسيًا واجتماعيًا.

المراجع:

1. World Health Organization. “Mental health of children and adolescents.”

2. American Academy of Child and Adolescent Psychiatry (AACAP). “Facts for Families Guide.”