الأشهر الحرم في الإسلام

لماذا سميت الأشهر الحرم بهذا الاسم؟

تُعدّ الأشهر الحُرم من أبرز المعالم الزمنية في التقويم الإسلامي، ولها مكانة عظيمة في الشريعة الإسلامية لما تتضمنه من أحكام خاصة، وفضائل دينية، وامتيازات روحية وأخلاقية. وتُشير تسمية هذه الأشهر بـ”الحُرم” إلى معانٍ جوهرية تتعلق بالتحريم والتقديس، وتعكس قيم السِلم، والتقوى، والاحترام للزمان الذي اختصه الله دون غيره. تنقسم السنة الهجرية إلى اثني عشر شهراً، وقد اختار الله منها أربعة أشهر ورفع من شأنها، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وسماها بالأشهر الحُرم، لما فيها من حرمة خاصة للدماء والحروب والمعاصي. ويهدف هذا المقال إلى تناول هذا الموضوع من مختلف زواياه، التاريخية والتشريعية واللغوية والدينية، لإبراز عمق الحكمة من تسمية هذه الأشهر بهذا الاسم، ولماذا فُضلت عن غيرها من شهور السنة.

أولاً: المفهوم اللغوي لـ”الحُرم”

يرتبط لفظ “الحُرم” في اللغة العربية بمادة (ح ر م) التي تدلّ على المنع والتقديس. فـ”الحُرمة” تعني ما لا يجوز انتهاكه، و”التحريم” هو منع الشيء ومنع الوصول إليه. ومن ذلك جاءت كلمات مثل “الحرم” لمكان يُمنع فيه القتال، و”الحرام” لما هو منهي عنه، و”المرأة الحرام” أي المحرّمة بالنسب أو الزواج. وبالتالي فإن “الأشهر الحُرم” هي الأشهر التي حرم الله فيها القتال وسفك الدماء، والتي حظيت بحماية إلهية من العدوان والفتنة والمعصية.

ثانياً: الخلفية التاريخية للأشهر الحُرم

كان العرب في الجاهلية يعرفون حرمة هذه الأشهر، ويوقرونها، ويكفّون فيها عن القتال والاعتداء، حتى إن الرجل كان يرى قاتل أبيه فلا يمسه بسوء ما دام ذلك في شهر من الأشهر الحُرم. وقد جاء الإسلام ليقرّ هذه العادة الصحيحة ويؤكد على قداستها، بل ويوسّع من أبعادها الروحية والأخلاقية. وقد وردت الإشارة إليها في قوله تعالى:

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36].

وبذلك، فإن التسمية ليست مجرد اصطلاح لغوي، بل هي توصيف شرعي ووضعي من الله تعالى منذ خلق السماوات والأرض، وليس فقط من عهد الإسلام.

ثالثاً: سبب التسمية بـ”الأشهر الحُرم”

سُمّيت بهذه التسمية لما يلي:

1. تحريم القتال فيها

أهم ما يميز هذه الأشهر هو تحريم القتال والاعتداء وسفك الدماء، إلا أن يكون دفاعًا أو ضرورة، وقد جاء في السنة النبوية ما يدل على احترامها كزمان له قدسيته، ومن ذلك خطبة النبي ﷺ في حجة الوداع حين قال:

“إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم”.

2. تحريم المعاصي وتضاعف الإثم فيها

إضافة إلى تحريم القتال، فإن المعاصي تُعدّ أشد جرمًا في هذه الأشهر، إذ أن انتهاك الحرمات فيها يعكس استخفافًا بالزمان الذي عظّمه الله، ولذلك قال العلماء إن المعاصي تتضاعف في هذه الأشهر، كما أن الحسنات تتضاعف فيها أيضًا.

3. الحرمة من حيث الشأن والقدر

سُمّيت “حُرمًا” لأنها أشهر لها مكانة خاصة في الشريعة الإسلامية، وقد حرّم الله فيها أشياء معيّنة تعظيمًا لها. فالتحريم هنا يتعدى الأفعال إلى تقديس الزمان نفسه، أي أن لهذه الأشهر “حرمة ذاتية” في التشريع الإلهي، تميّزها عن باقي الشهور.

رابعاً: ترتيب الأشهر الحُرم وأسماؤها

فثلاثة منها متوالية (ذو القعدة، ذو الحجة، المحرم)، وشهر واحد مفرد بين جمادى وشعبان، وهو رجب. وقد أكّد العلماء على أن هذا الترتيب ليس عبثياً، بل اختاره الله تعالى لحكمة، منها تنظيم أمور الحج والسفر، ومنع الغارات القبلية التي كانت تقع فجأة.

خامساً: الأحكام الفقهية المتعلقة بالأشهر الحُرم

1. تحريم القتال

من الأحكام المرتبطة بهذه الأشهر، تحريم القتال، وقد اختلف الفقهاء في هل هو تحريم تشريعي دائم، أم أنه كان مخصوصًا بأول الإسلام وانتهى؟ والراجح أن التحريم باقٍ من حيث الأصل، لكنه يزول عند الضرورة كالدفاع.

2. تأكيد حرمة المعاصي

يقول الإمام القرطبي: “العمل الصالح فيها أعظم أجرًا، والسيئة فيها أعظم وزرًا، وإن كانت السيئة لا تتضاعف من حيث العدد، ولكن من حيث الفظاعة”.

3. الحث على الطاعات

يُستحب في هذه الأشهر الإكثار من الأعمال الصالحة كالصيام، والصدقة، وصلة الأرحام، وطلب العلم، والذكر، وقراءة القرآن، والابتعاد عن أسباب الغفلة والهوى.

سادساً: مكانة الأشهر الحُرم في السيرة النبوية

عند استعراض السيرة النبوية، نلاحظ أن النبي ﷺ احترم هذه الأشهر، ولم يبدأ قتالاً فيها، بل تأكد في سيرته توقيرها، كما في صلح الحديبية الذي وقع في ذي القعدة. وفي حجة الوداع، وقعت كل أركان الحج في أشهر حُرم: الإحرام في ذو القعدة، الوقوف بعرفة والنحر في ذو الحجة، ثم الرجوع إلى المدينة في المحرم، وهذا يدل على الارتباط الوثيق بين هذه الأشهر وركن الحج.

سابعاً: الحكمة الإلهية من تخصيص الأشهر الحُرم

• ضبط النظام الاجتماعي والزمني: كانت الأشهر الحُرم وسيلة لضبط العلاقات بين القبائل في الجاهلية، فتحول الأمر إلى تشريع إلهي ينظّم الحياة.

• تهيئة النفوس للعبادة: وجود شهرين من الأشهر الحُرم متصلين بالحج يعين الحجاج على التركيز في الطاعة وترك الخصام.

• فرصة للمراجعة الروحية: هي فرصة للمسلمين لتجديد العلاقة مع الله، والانقطاع عن المعاصي.

• تعزيز ثقافة السِلم: يُمثل تحريم القتال في هذه الأشهر رسالة عالمية عن قيمة السِلم في الإسلام، وتغليب الحوار والمصالحة.

ثامناً: انتهاك الأشهر الحُرم في الجاهلية والإسلام

رغم احترام العرب للأشهر الحُرم، إلا أنهم كانوا يتحايلون أحياناً على تحريمها، ومن أبرز صور ذلك ما يُعرف بـ”النسيء”، وهو تأجيل الشهر الحرام أو تقديمه، وفقًا لمصالحهم القبلية والاقتصادية. وقد ذمّ الله هذا الفعل في قوله تعالى:

{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ…} [التوبة: 37].

وقد أبطله الإسلام نهائيًا، وجعل النظام الزمني ثابتًا، لا يتغير بتقلبات السياسة أو المصالح، وأمر المؤمنين بالالتزام بما حرمه الله من الأشهر الحُرم.

تاسعاً: الفروق بين الأشهر الحُرم وباقي الأشهر

عاشراً: دروس مستفادة من الأشهر الحُرم

• تعزيز أهمية الزمان في حياة المسلم، فكما يُقدس المكان (الحرم)، فإن هناك أيضًا زمانًا مقدسًا.

• ضرورة احترام الأوقات المباركة وعدم التفريط فيها بالغفلة.

• التقديس لا يقتصر على الطقوس بل يمتد إلى السلوك والأخلاق.

• التذكير المتجدد بحرمة الدماء وحفظ الأمن العام.

خاتمة

إن تسمية الأشهر الأربعة بـ”الحُرم” لم تأتِ جزافًا، بل هي إشارة واضحة إلى عظمة هذه الأزمنة، وإلى حكمة إلهية عميقة في تخصيصها بالتحريم والتعظيم. وقد رسّخ الإسلام هذه المفاهيم ووسّعها، فجعل من الأشهر الحُرم محطة زمنية سنوية للتقوى، والمراجعة الذاتية، والانقطاع عن العدوان، وتطهير النفس، وتجديد العهد مع الله. فكما أن الكعبة بيت الله الحرام هو مركز المكان المقدس، فإن الأشهر الحُرم هي مركز الزمان المقدس في الإسلام.

المراجع:

1. تفسير الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، دار المعارف.

2. زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم الجوزية، مؤسسة الرسالة.