الأديان الكبرى في هولندا

أكبر الأديان في هولندا، المسيحية، الإسلام، العلمانية، التطور التاريخي، التوزيع الجغرافي، الأثر الثقافي والاجتماعي

تُعدّ هولندا من الدول الأوروبية التي شهدت تحولات دينية واجتماعية عميقة عبر تاريخها، حيث انتقلت من مجتمعٍ يغلب عليه الطابع الديني المسيحي التقليدي إلى مجتمع علماني في غالبيته، يتسم بتنوع ديني وثقافي واسع. إن فهم الواقع الديني في هولندا يستوجب دراسة السياق التاريخي والديموغرافي والاجتماعي الذي أفرز هذا التعدد. يتناول هذا المقال الطويل بالتحليل والتحقيق واقع الأديان الكبرى في هولندا، مع التركيز على المسيحية، الإسلام، اليهودية، الهندوسية، البوذية، والعلمانية، إضافة إلى تأثير هذه المعتقدات على الثقافة والمجتمع الهولندي.

1. المسيحية: الدين التقليدي والأكثر تجذرًا

1.1 التاريخ الكنسي للمسيحية في هولندا

يعود تاريخ المسيحية في هولندا إلى العصور الرومانية، وقد شهدت البلاد تبشيرًا مسيحيًا مكثفًا منذ القرن الثالث، خاصة في المناطق الجنوبية. خلال العصور الوسطى، أصبحت الكاثوليكية الرومانية الديانة الرسمية تحت سلطة الكنيسة البابوية. غير أن القرن السادس عشر شهد حدثًا محوريًا تمثل في الثورة البروتستانتية التي أحدثت انقسامًا عميقًا داخل الكنيسة المسيحية، فظهرت الطوائف البروتستانتية بقوة في الشمال، خاصة الكنيسة الإصلاحية الهولندية (Nederlandse Hervormde Kerk).

1.2 الطوائف المسيحية الكبرى

• البروتستانتية: تُعدّ من أهم المذاهب المسيحية في هولندا، حيث لعبت دورًا كبيرًا في تشكيل الهوية الوطنية الهولندية، خصوصًا في مناطق الشمال والغرب. تتفرع منها كنيسة هولندا البروتستانتية (PKN) التي تأسست عام 2004 نتيجة اندماج ثلاث طوائف بروتستانتية.

• الكاثوليكية: تتركز في الجنوب (مقاطعات ليمبورغ وبرابانت الشمالي)، وتشكل نسبة معتبرة من المسيحيين، بالرغم من التراجع التدريجي في أعداد المنتمين لها منذ سبعينيات القرن العشرين.

1.3 الانحدار المسيحي والعلمنة

رغم التاريخ الطويل، شهدت المسيحية في هولندا انحدارًا حادًا منذ ستينيات القرن العشرين، وازدادت وتيرة هذا الانحدار في العقود التالية، حيث تراجعت نسبة الممارسين دينياً، وتحوّلت الكنائس إلى متاحف، مكتبات أو مقاهٍ. حسب الإحصائيات الحديثة، فإن أقل من 40% من السكان يُعرفون أنفسهم كمسيحيين، وغالبهم لا يشاركون فعليًا في الطقوس الدينية.

2. الإسلام: الدين الأسرع نموًا

2.1 الوجود الإسلامي في هولندا

ظهر الإسلام في هولندا بشكل واضح منذ خمسينيات القرن العشرين، نتيجة استقدام العمال المهاجرين من تركيا والمغرب خلال فترة إعادة إعمار ما بعد الحرب العالمية الثانية. وابتداءً من السبعينيات، بدأت الهجرات العائلية والتجمعات الإسلامية تأخذ طابعًا مستقرًا.

2.2 التوزيع السكاني للمسلمين

يتركز المسلمون بشكل رئيسي في المدن الكبرى مثل أمستردام، روتردام، ولاهاي، وأوتريخت، ويمثلون غالبًا مجتمعات تركية ومغربية في أصولهم، مع وجود أقلية من المسلمين السوريناميين، واللاجئين من سوريا والعراق وأفغانستان.

2.3 الإحصائيات والأرقام

تشير أحدث التقديرات إلى أن نسبة المسلمين في هولندا تتراوح بين 5% و6% من مجموع السكان (حوالي مليون مسلم)، وهي نسبة في تزايد مستمر، خصوصًا في أوساط الجيل الثاني والثالث من المهاجرين. كما تشير الدراسات إلى أن الإسلام بات يمثل ثاني أكبر ديانة في البلاد بعد المسيحية.

2.4 المساجد والمؤسسات الإسلامية

شهدت العقود الأخيرة ارتفاعًا في عدد المساجد والمراكز الإسلامية، التي وصل عددها إلى أكثر من 500 مسجد، بالإضافة إلى المدارس الإسلامية والمنظمات المجتمعية التي تسهم في تعزيز الهوية الدينية للأجيال الجديدة من المسلمين.

3. العلمانية والإلحاد: القوة الصاعدة في المشهد الديني

3.1 التحول إلى العلمانية

من أبرز مظاهر التحول الديني في هولندا هو الارتفاع الكبير في نسبة غير المتدينين، حيث تُصنف هولندا اليوم كإحدى أكثر الدول علمانية في أوروبا. تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 55% من السكان لا ينتمون لأي دين، ويُصنَّف كثير منهم كـ “لاأدريين” أو “ملحدين”.

3.2 التأثيرات الثقافية والاجتماعية

ساهمت هذه العلمانية في تعزيز قيم الفردانية، التسامح، وحرية المعتقد، كما انعكست على السياسات الحكومية في فصل الدين عن الدولة، وتشجيع التعليم العلماني. غير أن هذا التحول أثار جدلاً داخل بعض المجتمعات الدينية، وخاصة في قضايا مثل الحجاب، التعليم الديني، والتعدد الثقافي.

4. الديانات الأخرى: وجود رمزي وتنوع ثقافي

4.1 اليهودية

يعود الوجود اليهودي في هولندا إلى القرون الوسطى، وتحديدًا إلى فترة الاستيعاب في العصور الذهبية. غير أن المجتمع اليهودي تعرّض لدمار هائل خلال الحرب العالمية الثانية، حيث قُتل أكثر من 75% من يهود هولندا في المحرقة. اليوم يُقدَّر عدد اليهود بما بين 30,000 و40,000، ويتمركزون أساسًا في أمستردام، حيث توجد معابد ومؤسسات يهودية ثقافية ودينية.

4.2 البوذية والهندوسية

ظهرت البوذية والهندوسية في هولندا نتيجة الهجرات من سورينام (الهندوس)، ومن دول جنوب شرق آسيا (البوذيون). ورغم أن أعداد أتباع هذين الديانتين لا تتجاوز 1% من مجموع السكان، إلا أنهما يتمتعان بحضور ثقافي متزايد، وتنتشر مراكز التأمل، اليوغا، والمراكز الثقافية الهندوسية والبوذية.

5. التوزيع الجغرافي للأديان في هولندا

6. التأثيرات السياسية والاجتماعية للدين

تلعب الأديان في هولندا دورًا محدودًا في السياسة، نظرًا لطبيعة الدولة العلمانية، غير أن بعض الأحزاب السياسية ذات التوجه الديني لا تزال نشطة، مثل الحزب الديمقراطي المسيحي (CDA)، والحزب الإصلاحي البروتستانتي (SGP). كما تظهر توترات أحيانًا في الخطاب السياسي حول الهجرة والإسلام، وهو ما أدى إلى صعود بعض الأحزاب اليمينية المتشددة.

على الصعيد الاجتماعي، لا تزال المناسبات الدينية مثل عيد الميلاد، عيد الفصح، ورمضان، تحظى بمكانة رمزية، رغم التراجع في الممارسة الفعلية. كما أن المؤسسات الدينية تلعب دورًا في تقديم خدمات اجتماعية، مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والعمل الخيري.

7. الدين والتعليم في هولندا

يُعتبر النظام التعليمي الهولندي منفتحًا، حيث يسمح بإنشاء مدارس دينية ممولة من الدولة شريطة الالتزام بالمناهج التعليمية الأساسية. وهذا يفسر وجود عدد كبير من المدارس المسيحية والإسلامية في البلاد. وتتيح الدولة كذلك التعليم الديني ضمن برامج محدودة، مع احترام حرية المعتقد.

8. مستقبل التعدد الديني في هولندا

تشير التوجهات المستقبلية إلى استمرار صعود العلمانية من جهة، ونمو الإسلام من جهة أخرى، في ظل تراجع مستمر للمسيحية التقليدية. يتوقع الباحثون أن تستمر هولندا في كونها نموذجًا للتعدد الثقافي والديني، مع تحديات تتعلق بالاندماج، الهوية، والتسامح المتبادل.

الخلاصة: خارطة دينية معقدة ومتغيرة

تُظهر الحالة الدينية في هولندا تحولًا عميقًا نحو العلمنة، وتراجعًا للدين التقليدي، بالتوازي مع صعود الإسلام كمكوّن ديني واجتماعي متزايد التأثير. هذه الخارطة المتغيرة تُعدّ مرآة لتحولات اجتماعية أعمق، تشمل الهجرة، العولمة، وتغيّر القيم الثقافية، وتجعل من هولندا مثالًا مهمًا لدراسة الدين في المجتمعات الأوروبية المعاصرة.

المراجع:

1. CBS (Centraal Bureau voor de Statistiek) – Statistieken over religie in Nederland

2. Taylor, C. (2007). A Secular Age. Harvard University Press.