أكبر الأديان في البوسنة والهرسك، التوزيع الديني، الإسلام، المسيحية، الأرثوذكسية، الكاثوليكية، الأقليات الدينية، التاريخ الديني في البلقان
الأديان في البوسنة والهرسك: قراءة معمقة في الهوية الدينية والتعدد الثقافي
تُعد البوسنة والهرسك واحدة من أكثر الدول تنوعًا دينيًا في القارة الأوروبية، وهي تعكس بانوراما فريدة من التعدد الديني والإثني والثقافي الذي تشكل عبر قرون من التفاعل التاريخي والسياسي بين الإمبراطوريات والحضارات. وعلى الرغم من صغر مساحة الدولة الواقعة في جنوب شرق أوروبا، فإنها تحتضن تركيبة سكانية متباينة تنقسم بوضوح على أساس الانتماءات الدينية والعرقية، مما جعل الدين ليس مجرد خيار روحي، بل عنصرًا جوهريًا في الهوية الاجتماعية والسياسية والثقافية للسكان.
الخلفية التاريخية للتوزيع الديني في البوسنة والهرسك
يُعزى التعدد الديني في البوسنة والهرسك إلى موقعها الجغرافي الفريد الذي جعل منها ممرًا طبيعيًا بين الشرق والغرب، وميدانًا مفتوحًا لصراعات حضارية وعسكرية متكررة. خضعت البلاد على مر العصور لعدة إمبراطوريات، من بينها الإمبراطورية البيزنطية، والدولة الكرواتية، والمملكة الهنغارية، ثم الدولة العثمانية التي حكمت البلاد لأكثر من أربعة قرون. ومع انهيار الدولة العثمانية، خضعت البوسنة والهرسك للحكم النمساوي المجري، قبل أن تصبح جزءًا من مملكة يوغوسلافيا ثم جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الفيدرالية.
هذا التاريخ السياسي المتقلب ترك بصمته واضحة على المشهد الديني، حيث توزعت الديانات الثلاث الكبرى ـ الإسلام، المسيحية الأرثوذكسية، والمسيحية الكاثوليكية ـ بشكل يعكس الولاءات السياسية والجغرافية للأقليات العرقية الأساسية: البوشناق، الصرب، والكروات.
الإسلام: الديانة الأكثر انتشارًا
يشكل المسلمون النسبة الأكبر من سكان البوسنة والهرسك، ومعظمهم من البوشناق، وهم السكان الأصليون الذين اعتنقوا الإسلام خلال الحكم العثماني للبلاد. وفقًا لآخر الإحصاءات الرسمية المتوفرة (إحصاء 2013)، فإن حوالي 50.7% من سكان البلاد هم من المسلمين، ويتركز وجودهم بشكل أساسي في الجزء المركزي والشمالي الشرقي من البلاد، بما في ذلك العاصمة سراييفو، ومدينة توزلا، وزينيتسا، وبيهاتش.
يرتبط الإسلام في البوسنة والهرسك ارتباطًا عميقًا بالهوية القومية للبوشناق، كما أن المذهب السني هو السائد بينهم، وتحديدًا على الطريقة الحنفية. على الرغم من النزاعات العنيفة التي شهدتها البلاد خلال حرب البوسنة (1992–1995)، حافظ المسلمون على بنية دينية منظمة تضم المشيخة الإسلامية العليا، والعديد من المدارس الدينية (المدارس الإسلامية)، والمساجد التاريخية، التي تُعد من أبرز معالم البلاد الثقافية والمعمارية.
تُعتبر سراييفو واحدة من المدن القليلة في أوروبا التي تتميز بطابع إسلامي واضح، حيث تنتشر فيها المساجد والمآذن، إلى جانب مراكز الدراسات الإسلامية، والفعاليات الدينية المرتبطة بشهر رمضان والأعياد الإسلامية، ما يجعل الإسلام ليس مجرد عقيدة بل نمط حياة اجتماعي وثقافي متكامل.
المسيحية الأرثوذكسية: الحضور الصربي
تشكل المسيحية الأرثوذكسية ثاني أكبر الديانات في البوسنة والهرسك، ويتبعها بشكل رئيسي الصرب البوسنيون الذين يُمثلون نحو 30.7% من إجمالي السكان. تنتشر الكنيسة الأرثوذكسية الصربية بشكل واسع في الكيان الصربي من البلاد، المعروف باسم “جمهورية صربسكا” (Republika Srpska)، وهي واحدة من الكيانين الأساسيين الذين يشكلان الدولة إلى جانب اتحاد البوسنة والهرسك.
تُعد الكنيسة الأرثوذكسية الصربية مؤسسة محورية في حياة الصرب البوسنيين، حيث تُستخدم كأداة للحفاظ على الهوية العرقية والثقافية، خاصة بعد تفكك يوغوسلافيا. تضم جمهورية صربسكا عددًا من الكاتدرائيات والمعابد الأرثوذكسية العريقة، والتي تُشكل بدورها مركزًا للنشاطات الدينية والاجتماعية. أما الكنيسة نفسها فهي جزء من بطريركية بلغراد، وتخضع لإدارة المجمع المقدس للكنيسة الصربية الأرثوذكسية.
المسيحية الكاثوليكية: الحضور الكرواتي
تُعد المسيحية الكاثوليكية ثالث أكبر الديانات في البلاد، ويتبعها بشكل رئيسي الكروات البوسنيون، والذين يُمثلون حوالي 15.2% من سكان البوسنة والهرسك. يتوزع الكروات الكاثوليك في المناطق الغربية من البلاد، وخاصة في منطقة الهرسك وفي أجزاء من وسط البوسنة، حيث تُشكل مدينة موستار أبرز مراكز وجودهم الديني والثقافي.
تنتمي الكنيسة الكاثوليكية في البوسنة والهرسك إلى سلطة الفاتيكان، وتتبع تنظيمًا دقيقًا يشمل أبرشيات وكاتدرائيات ومؤسسات دينية وتعليمية. تلعب الكنيسة الكاثوليكية دورًا هامًا في حياة الكروات، ليس فقط كمنظمة روحية، بل كمكون أساسي لهويتهم القومية، خاصة في ظل التحديات التي يواجهها الكروات البوسنيون للحفاظ على وجودهم وحقوقهم السياسية في دولة متعددة الأعراق والديانات.
الأديان الأخرى والأقليات الدينية
رغم أن الديانات الثلاث الكبرى تستحوذ على النسبة الساحقة من السكان، إلا أن هناك أقليات دينية صغيرة تمثل جزءًا من التنوع الديني في البلاد، منها:
-
اليهودية: يُعد المجتمع اليهودي في البوسنة والهرسك من أقدم المجتمعات اليهودية في منطقة البلقان، وقد لعب دورًا بارزًا في الحياة الثقافية والاقتصادية للبلاد، خاصة في سراييفو. ومع ذلك، تقلص عدد اليهود بشكل كبير خلال القرن العشرين نتيجة للحرب العالمية الثانية والهجرة.
-
البروتستانتية: لا يتعدى عدد أتباع الكنائس البروتستانتية بضع آلاف، وتنتشر بينهم الكنيسة الإنجيلية والكنيسة المعمدانية.
-
الملحدون واللادينيون: يشكل هؤلاء نسبة صغيرة ولكن متزايدة، خاصة في أوساط الشباب المتعلم في المناطق الحضرية الكبرى.
التوزيع الجغرافي للسكان حسب الديانة
فيما يلي جدول يوضح التوزيع الجغرافي والتقديري للأديان الثلاث الكبرى حسب الكيانات الفيدرالية:
| الكيان الإداري | المسلمون (%) | الأرثوذكس (%) | الكاثوليك (%) |
|---|---|---|---|
| اتحاد البوسنة والهرسك | 70.4% | 2.3% | 22.4% |
| جمهورية صربسكا | 13.0% | 81.5% | 3.0% |
| مقاطعة برتشكو | 42.3% | 34.6% | 20.7% |
تعكس هذه الأرقام تباينًا كبيرًا في التوزيع الديني بين الكيانات السياسية، مما يُعقّد أحيانًا مسارات صنع القرار السياسي ويُعمّق الانقسامات العرقية في المجتمع.
الدين كمحدد للهوية في الحياة السياسية والاجتماعية
لا يمكن فهم الدين في البوسنة والهرسك بمعزل عن الهويات القومية والسياسية، فهو يلعب دورًا مركزيًا في تحديد الانتماء السياسي والاجتماعي للأفراد. تنقسم الأحزاب السياسية نفسها في الغالب على أسس دينية/عرقية، كما أن القوانين والسياسات في العديد من المجالات تخضع لتوازنات دقيقة بين المجموعات الدينية المختلفة. التعليم، الإعلام، قوانين الزواج، وحتى الأعياد الرسمية تعكس هذا الانقسام الثلاثي القائم على الدين.
أدى هذا الواقع إلى ظهور نظام حكم معقد قائم على المحاصصة الطائفية، حيث يتم توزيع المناصب العليا في الدولة (الرئاسة، البرلمان، الحكومة) بين ممثلين عن المجموعات الثلاث الكبرى وفقًا لنظام الكوتا، ما يجعل العملية السياسية في البلاد بطيئة ومعقدة، ولكنها في الوقت نفسه وسيلة للحفاظ على السلم الأهلي بعد حرب أهلية طاحنة.
التعايش الديني ومظاهر التسامح والتوتر
رغم الانقسامات، شهدت البوسنة والهرسك على مر تاريخها فترات طويلة من التعايش السلمي بين الديانات، خاصة في المراكز الحضرية الكبرى مثل سراييفو وموستار وترافنيك. يُطلق على سراييفو أحيانًا اسم “القدس الأوروبية” نظرًا لاحتضانها للمساجد والكنائس والمعابد في مكان واحد.
ومع ذلك، لا تزال البلاد تواجه تحديات حقيقية في مجال التعايش الديني، خاصة بسبب إرث الحرب البوسنية التي خلّفت جراحًا نفسية واجتماعية عميقة لم تندمل بعد، فضلًا عن الخطابات السياسية التي تعزز أحيانًا النزعات الانفصالية والانغلاق الطائفي.
الخاتمة
إن فهم الدين في البوسنة والهرسك يتطلب تجاوز التصنيفات السطحية والانخراط في تحليل معمق للبنية الاجتماعية والتاريخية والسياسية التي جعلت من الدين عنصرًا لا غنى عنه في تشكيل هوية الفرد والمجتمع والدولة. رغم التحديات والاختلافات، يبقى التنوع الديني في البوسنة والهرسك مصدرًا غنيًا للتعدد الثقافي، وركيزة أساسية لفهم تاريخ المنطقة ومستقبلها.
المراجع:
-
Bosnia and Herzegovina Census 2013 – Statistical Agency of Bosnia and Herzegovina
-
Malcolm, Noel. Bosnia: A Short History, NYU Press, 1996
