احترام المعلم واجب ديني

احترام المعلم واجب ديني

إنّ احترام المعلّم ليس مجرّد واجب اجتماعي أو قيمة تربوية تُغرس في المدارس، بل هو واجب ديني أصيل في الإسلام، مستمدّ من النصوص الشرعية التي تُعلي من شأن العلم والعلماء، وتحث على توقيرهم وتعظيمهم. فالمعلّم ليس فقط ناقلاً للمعرفة، بل هو مُوجّه للنفوس، وبانٍ للعقول، ومُسهم في صناعة الحضارات. ومن هذا المنطلق، فإنّ احترامه ليس تفضّلاً من الطالب أو المجتمع، بل فريضة تُحتِّمها الشريعة وتؤكّدها سنة النبي محمد ﷺ، وتدعو إليها الفطرة السليمة والعقول الراجحة.

أولًا: منزلة العلم والعلماء في الإسلام

جاءت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية بتكريمٍ بالغٍ للعلم ورفعٍ لمكانة أهله. فقد قال الله تعالى:

﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]،

وقال سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]،

وورد عن النبي ﷺ: “من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة” [رواه مسلم].

هذه النصوص وغيرها تدلّ على أن العلم باب من أبواب الجنة، وأنّ أهله في منزلة عظيمة عند الله، ومن ثمّ فإنّ من يعلّم الناس ويهديهم ويصقل عقولهم، يستحق أعلى مراتب الاحترام والتقدير.

ثانيًا: المعلم في ضوء السيرة النبوية

أظهرت سيرة النبي ﷺ احترامًا كبيرًا للمعلمين، بل كان هو المعلم الأول، وقد وصفه الله تعالى بقوله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [آل عمران: 164].

كان ﷺ يُعلّم الناس بحِلم، ويُوجّههم برحمة، وكان أصحابه رضي الله عنهم يُجلّونه ويوقّرونه في كل أحوالهم، ويصغون له باهتمام، ويتعلّمون منه بأدب جمّ. فهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: “كان النبي ﷺ إذا تكلّم كأنما تُنْثَرُ الدُرَرُ من فيه، فيُعِيها كلّ من سمعها.”

كما أنّ النبي ﷺ وجّه أمته لاحترام العلماء، فقد قال: “ليس منّا من لم يوقّر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه.” [رواه أحمد].

ثالثًا: احترام المعلّم من أصول الأخلاق الإسلامية

الأخلاق في الإسلام تقوم على أساس توقير من له فضل، وحفظ مكانة من يبذل العلم والمعرفة. ومن يُهين المعلّم أو يُقلّل من شأنه، إنما يطعن في جذرٍ من جذور البناء الأخلاقي الذي يقوم عليه المجتمع المسلم. ولذلك، فإن احترام المعلّم ليس من نافلة القول أو سلوكًا نافعًا فحسب، بل هو تجلٍّ لأدبٍ إسلامي أصيل، يقوم على:

• التواضع لمن يعلّمك: فالمعلّم سبب في إخراجك من الجهل إلى المعرفة.

• الإنصات له وعدم مقاطعته: لأن في ذلك احترامًا لعلمه وهيبته.

• الدعاء له والاعتراف بفضله: إذ قال الإمام الشافعي: “من تعلّمت منه حرفًا، صرت له عبدًا.”

رابعًا: صور احترام المعلّم في التراث الإسلامي

سَطّر علماء الإسلام أعظم صور التوقير للمعلّمين، فكانوا يَعدّونهم بمنزلة الوالد، بل وربّما أعلى من ذلك من حيث الفضل في التربية العقلية والروحية. فعلى سبيل المثال:

• الإمام مالك بن أنس كان لا يُحدّث حديثًا إلا وهو على وضوء، ومتزيّن بأجمل الثياب، إجلالًا لعلم النبي ﷺ.

• الطلاب في حلقات العلم كانوا لا يرفعون أصواتهم، ولا يجلسون قبل معلميهم، بل كانوا يجلسون بالساعات الطويلة لا يحرّكون أجسامهم توقيرًا للعلم.

كما أنّ كثيرًا من علماء الأمة كانوا ينقلون أقوال معلميهم قبل آرائهم، ويبدؤون كتبهم بالدعاء لهم، إقرارًا بفضلهم.

خامسًا: الانحدار الأخلاقي نتيجة لغياب احترام المعلّم

من الظواهر المؤلمة في بعض المجتمعات المعاصرة تراجع قيمة احترام المعلم، وانتشار صور من التعدي اللفظي، بل والجسدي أحيانًا، وهو ما ينذر بخطر عظيم. إذ أنّ انهيار هيبة المعلم يؤدي إلى:

• انحدار العملية التعليمية برمتها، إذ لا يمكن للمعرفة أن تُبنى في مناخ يتسم بالاستهزاء أو الإهمال.

• انحلال القيم لدى الطلاب، لأنهم يفقدون القدوة الأخلاقية التي يجسّدها المعلّم.

• فقدان احترام المجتمع للعقل والعلم، مما يؤدي إلى انتشار الجهل والانحراف.

سادسًا: مكانة المعلم في فقه الإسلام

من الناحية الفقهية، أشار عدد من العلماء إلى أنّ احترام المعلّم من الحقوق الواجبة شرعًا، لأنه يدخل ضمن باب «ردّ الجميل» و«شكر المنعِم». بل عدّ بعض الفقهاء من إساءة الأدب مع المعلم نوعًا من العقوق. وقد ورد في كتب الفقه أن «حق المعلّم أن يُوقَّر ويُكرَّم، ويُصغى إليه، ولا يُقدَّم عليه أحد في المجلس، ويُدعى له في ظهر الغيب، ويُستأذن في الحديث».

وقد أوجب بعض العلماء أيضًا على المتعلم أن:

• لا يجلس في مجلس التعليم إلا بإذن معلّمه.

• لا يُجادله أو يرفع صوته عليه.

• لا يُظهر الملل أو التعب عند التعلّم.

وهذا يُبيّن أن الاحترام ليس مجرّد سلوك ظاهري، بل هو التزام شرعي له أبعاده التربوية والدينية.

سابعًا: أثر احترام المعلّم على تطوّر المجتمعات

احترام المعلم يُسهم في بناء بيئة تعليمية سليمة، تُمكّن من تَبادل المعرفة بين الأجيال، وترسّخ مكانة العلم في المجتمع. والمجتمعات التي ترفع من قدر معلّميها، عادةً ما تشهد تطورًا علميًا وثقافيًا ملحوظًا. ومن أبرز هذه الآثار:

ثامنًا: أهمية ترسيخ قيمة احترام المعلم منذ الصغر

لا بدّ أن تبدأ التربية على احترام المعلم منذ الطفولة، من خلال:

• الأسرة: التي ينبغي أن تُعلّم أبناءها أن المعلم بمنزلة الوالد.

• المدرسة: من خلال مناهج تُبرز دور المعلم وأهميته.

• الإعلام: بتقديم نماذج مشرّفة لمعلمي الأمة.

فعندما يُربّى النشء على توقير المعلّمين، فإنهم يكبرون وهم يحملون تقديرًا للعلم ولأهله، وتصبح لديهم مناعة ضد موجات الاستهزاء والسخرية.

تاسعًا: نماذج مشرقة لاحترام المعلم في التاريخ الإسلامي

في تاريخنا المجيد، ظهرت نماذج مضيئة لاحترام المعلّمين، نذكر منها:

• الطالب النجيب يحيى بن معين الذي كان لا يُجادل أستاذه الإمام أحمد بن حنبل، ويظل منصتًا لساعات دون حراك.

• ابن عباس رضي الله عنه، ترجمان القرآن، كان يقول: “كنت إذا سمعت أن عند رجل علمًا، أذهب إليه وأنا عبدٌ له حتى آخذ منه.”

وهذه الأمثلة تدلّ على أن احترام المعلم كان من أسباب تفوّقهم وتألّقهم العلمي، وأنّ من خسر احترام معلّمه، خسر جزءًا كبيرًا من بركة العلم.

عاشرًا: الخاتمة

إنّ احترام المعلّم واجب ديني قبل أن يكون واجبًا اجتماعيًا، وهو من أعظم القربات التي تُظهر صدق الطالب في طلب العلم، ومن أبرز علامات الفطرة السليمة والأدب الإسلامي. فبقدر ما تُحترم منارات العلم في الأمة، بقدر ما تنهض الأمة بعلمائها وعقولها، وترتقي في مدارج الحضارة والمعرفة.

المراجع:

1. الإمام النووي، رياض الصالحين.

2. ابن جماعة الكناني، تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم.