سر بسم الله الرحمن الرحيم

سر بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

تشكل العبارة المباركة “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ” أحد أبرز العبارات التي تتردد على ألسنة المسلمين يوميًا، بل تعتبر مدخلًا لكل فعل وقول، ومفتاحًا لأبواب الخير والبركة، ووسيلة لحلول السكينة والطمانينة في القلوب. هذه العبارة ليست مجرد مقدمة لفظية أو تكرار روتيني، بل تحمل سرًّا ربانيًّا عظيمًا متجذرًا في عمق العقيدة الإسلامية، يرتبط بأسماء الله وصفاته، ويتصل بحضور الذكر في أدق تفاصيل حياة المسلم، بدءًا من العبادات إلى المعاملات اليومية. في هذا المقال المطول، سيتم الكشف عن الجوانب العقدية والروحية واللغوية والفقهية والنفسية لـ”بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ”، وسنتتبع أثرها في حياة الفرد والمجتمع، ودورها في ربط الإنسان بخالقه، وإشراكه في عالم من البركة والطمأنينة الإيمانية.

أولية البسملة في القرآن الكريم

من أولى دلائل أهمية “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ” أن الله تعالى جعلها أول ما يفتتح به كتابه العزيز. فالقرآن الكريم يبدأ بها قبل سورة الفاتحة، وهي السورة التي تعدّ أمّ الكتاب، وافتتاح الصلاة، وركيزة الدعاء. وقد وردت البسملة في أوائل السور القرآنية (عدا سورة التوبة) لتكون بمثابة تذكير دائم باسم الله وصفاته قبل التوجيهات، والأوامر، والنواهي.

السر في تركيب البسملة: تحليل لغوي دقيق

لفهم سر البسملة، لا بدّ من التأمل في تراكيبها:

• “بِسْمِ”: حرف الجر “بِـ” متصل بـ”اسم”، ويعني الاستعانة والابتداء، أي أن العبد يشرع فعله متبركًا ومتعززًا باسم الله، لا بحوله أو قوته.

• “اللَّهِ”: الاسم الأعظم الجامع لكل الأسماء الحسنى، وهو اسم الذات الإلهية الذي لا يشاركه فيه أحد. يقول بعض العلماء إن لفظ الجلالة “الله” يتضمن كل صفات الكمال والجلال، ما يجعله مركزًا للتوحيد الخالص.

• “الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ”: الاسمان مشتقان من “الرحمة”، لكنهما ليسا مترادفين. فالرحمن يدل على الرحمة العامة الشاملة لكل الخلق، أما الرحيم فيدل على الرحمة الخاصة بالمؤمنين. وهنا يكمن سرّ عظيم: الجمع بين الرحمة العامة والخاصة، ليشعر الإنسان أن الله رؤوف به في الدنيا والآخرة.

سر البسملة من منظور العقيدة

البسملة هي تعبير عن التوحيد العملي، إذ إن المؤمن حين يقولها يُقرّ أن الله هو مصدر كل شيء، وهو المتصرف في الأمور كلها. كما أن فيها توكلًا خالصًا على الله، واعتمادًا عليه في كل فعل مهما بدا بسيطًا أو يوميًا. ومن أعظم أسرارها أنها تبني صلة دائمة بين العبد وربه، وتجعله يذكر الله في كل لحظة، ما يُكسبه مراقبة ذاتية رفيعة واستحضارًا دائمًا لعظمة الخالق.

مكانة البسملة في السنن النبوية

ورد عن النبي محمد ﷺ أنه كان يبدأ كل أمر ذي بال بـ”بِسْمِ اللَّهِ”، وقال في الحديث الصحيح: “كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر”. والبتر هو الانقطاع والنقص، أي أن الأعمال التي لا تفتتح بذكر الله تكون ناقصة من حيث البركة أو القبول. هذا الحديث يلقي ضوءًا على مركزية البسملة في السنة العملية النبوية، فهي شعار المسلم في أكله وشربه ونومه ويقظته، وحتى في دخوله وخروجه.

السر النفسي في البسملة

من الناحية النفسية، فإن تكرار البسملة في حياة المسلم يؤدي إلى حالة من الطمأنينة والسلام الداخلي. إذ تشير الدراسات النفسية إلى أن الذكر المستمر، وخصوصًا عند الشروع في المهام اليومية، يقلل من التوتر ويزيد من الشعور بالتحكم الذاتي والتوازن. “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ” تختزل ثلاث ركائز نفسية مهمة:

البسملة والبركة في الأفعال

أجمع أهل العلم أن “بِسْمِ اللَّهِ” تفتح أبواب البركة، وتمنع الشيطان من الدخول في أعمال الإنسان. جاء في الأحاديث أن من لم يسمّ الله على طعامه شاركه فيه الشيطان، كما أن من نسي فذكر لاحقًا، فإن الله يبارك له فيما تبقى. هذه البركة ليست فقط بركة مادية في المال أو الطعام، بل تمتد لتشمل بركة الوقت، والجهد، والعلاقات، والنية، والتوفيق العام في الحياة.

البسملة في الفقه الإسلامي

يرى فقهاء المسلمين أن البسملة ليست فقط سُنة، بل في بعض المواضع تكون واجبة، مثل قراءتها في الصلاة عند بعض المذاهب، أو في الذبح الشرعي، حيث لا يُحلّ أكل الذبيحة إلا إذا ذكر اسم الله عليها، لقوله تعالى:

﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 118].

وتُستحب البسملة في كل أمر مباح، مثل دخول المنزل، وركوب السيارة، واستعمال الهاتف، بل حتى عند الجماع، إذ ورد في الحديث أن من سمّى الله قبل ذلك وُقِيَ ولده من الشيطان.

سر البسملة في الذبح والبركة في الطعام

من الأسرار العملية المهمة لـ”بِسْمِ اللَّهِ” أنها تفصل الحلال عن الحرام في الطعام، فذِكر اسم الله شرط من شروط صحة الذبيحة في الإسلام. يقول تعالى:

﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [الأنعام: 121].

هذا الذكر له أثر روحي في الطعام، إذ يُخرج منه الأذى الروحي، ويملأه بالبركة والنقاء. البسملة هنا ليست مجرد إجراء لفظي، بل إعلان عملي أن الطعام هبة من الله، وأن العبد لا يتصرف في الكون بغير إذن خالقه.

البسملة وعلاقتها بالأسماء الحسنى

البسملة تتضمن اثنين من الأسماء الحسنى: “الرحمن” و”الرحيم”، وكلاهما من أسماء الرحمة. وهذا يدل على أن الأصل في العلاقة بين الخالق وعباده هي الرحمة، لا العذاب. كما أن هذا الاستهلال يوحي بأن كل فعل الإنسان لا بد أن ينبني على الرحمة: رحمة بالنفس، ورحمة بالآخر، ورحمة بالمخلوقات.

البسملة في آثار العلماء والعارفين

اهتم العلماء والعارفون بالله بالبسملة اهتمامًا خاصًا، فابن القيم في “مدارج السالكين” تحدث عن أن للبسملة سرًا في فتح أبواب القلب، وابن عربي أفرد لها تفسيرات في وحدة الوجود، والغزالي اعتبرها مفتاح الحكمة. حتى الفقهاء لم يغفلوا عن آثارها التعبدية والأخلاقية، فكانت ركيزة في كتب الفقه، والحديث، والتفسير.

الرمزية الباطنية في البسملة

بعض العلماء من أهل التصوف والتدبر الغيبي يرون أن في البسملة رمزية روحية عظيمة:

• الباء: تدل على “الاستعانة”، وفتح باب الفيض.

• الاسم: دلالة على التعريف بالله الذي لا يُدرك إلا من خلال صفاته.

• الله: الذات العلية، المصدر لكل الوجود.

• الرحمن الرحيم: الانغماس في بحر الرحمة المتدفقة.

ويذهب بعض العارفين إلى أن كل حرف في البسملة يحمل إشعاعًا نوريًا يؤثر في الروح، وأن من داوم على قراءتها بخشوع، فُتحت له أبواب الفهم الروحي.

البسملة في غير القرآن: الرسائل والعقود والمعاملات

لم يقتصر استعمال البسملة على العبادات، بل كان الخلفاء والملوك يبدؤون بها رسائلهم ومعاهداتهم. النبي ﷺ أرسل كتبه إلى الملوك وأهل الكتاب مبتدئًا بـ”بسم الله الرحمن الرحيم”، ما يؤكد أن البسملة لغة التواصل النبيل بين الشعوب، والمقدمة التي تعكس النية الطيبة والصادقة.

سر التوازن في البسملة بين القوة والرحمة

الجامع بين “اسم الله” كرمز للجبروت، و”الرحمن الرحيم” كرمز للرحمة، يكشف عن توازن عجيب في صفات الله. فالله جلّ جلاله جمع بين الهيبة والحنان، بين العدل والرحمة، وهذا يعكس فلسفة الإسلام في رؤيته للوجود: أن العدل لا يكون كاملاً إلا إذا خالطه الرحمة، وأن الخوف لا يكتمل إلا بالرجاء.

أثر البسملة على السلوك والأخلاق

إن الاستحضار الدائم للبسملة ينعكس على سلوك الفرد، فيصبح أكثر خشوعًا، وأشد وعيًا بما يقول ويفعل، إذ يشعر أن كل شيء موصول بالله، وأن عليه مسؤولية أخلاقية أمام ربه. المسلم الذي يبدأ يومه بـ”بِسْمِ اللَّهِ” لا يمكن أن يبدأه بأذى، أو كذب، أو خيانة، لأنها تتناقض مع المعنى الروحي العميق لهذه العبارة.

خاتمة علمية وتأمل ختامي

الحديث عن “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ” ليس مجرد وقوف عند عبارة مكونة من كلمات، بل هو الغوص في أعماق سرّ إلهي يحمل بركات لا تحصى. فهي مفتاح للقرآن، ومفتاح لكل خير، وباب من أبواب الرحمة والتوحيد والبركة. تدبرها يربط القلب بالله، ويجعل اللسان عامرًا بذكره، ويجعل العمل متصلًا بنية الخير والطهارة.

المراجع:

1. ابن القيم الجوزية، مدارج السالكين.

2. الإمام الطبري، جامع البيان في تفسير القرآن.