إجهاد العمل والإدمان

يُعدّ إجهاد العمل من أبرز الظواهر النفسية والاجتماعية في العصر الحديث، ويُنظر إليه عادة كعامل خطر يؤثر على الصحة النفسية والبدنية للإنسان، غير أن ما لا يُدركه كثيرون هو الارتباط العميق بين هذا النوع من التوتر المزمن وبين نشوء السلوكيات الإدمانية. في هذا المقال الموسّع، نستعرض كيف يمكن أن يؤدي إرهاق العمل إلى الإدمان، بدءًا من الآليات العصبية والنفسية التي تحكم العلاقة بين الإجهاد والسلوكيات القهرية، وصولاً إلى الأشكال المختلفة للإدمان التي قد تنجم عنه، سواء كانت إدمان مواد كيميائية أو سلوكيات مثل التسوّق، أو الإنترنت، أو حتى العمل نفسه.

التوتر المزمن كأرض خصبة للإدمان

عندما يتعرّض الإنسان لإجهاد مزمن في بيئة العمل، فإن الدماغ يبدأ بإفراز كميات غير متوازنة من هرمونات التوتر، وأهمها الكورتيزول والأدرينالين. تعمل هذه الهرمونات على إبقاء الجسم في حالة تأهب مستمر تُعرف بـ”وضع القتال أو الهروب”، وهي استجابة بيولوجية طارئة تهدف للحماية في المواقف الخطيرة. غير أن استمرار هذا الوضع لفترات طويلة يخلّ بتوازن كيمياء الدماغ ويجعل الفرد أكثر عرضة للبحث عن وسائل مؤقتة للهروب أو الاسترخاء، وهو ما يمهّد الطريق لسلوكيات إدمانية.

كيف يعيد الدماغ تشكيل نفسه تحت الإجهاد

الإجهاد المتواصل يغيّر تركيبة الدماغ ووظائفه، وخاصة في المناطق المسؤولة عن اتخاذ القرار، التحكم في الذات، والمكافأة. فمثلاً، يؤدي التحفيز المستمر لمركز المكافأة العصبي (المرتبط بالدوبامين) إلى زيادة الحاجة إلى محفزات خارجية تُحدث تأثيرًا مشابهًا، مثل الكحول، النيكوتين، المخدرات، أو السلوكيات التي تُشبع نفس المراكز العصبية، كتناول الطعام بشراهة أو تصفّح الإنترنت لساعات.

أنواع الإدمان المرتبطة بإجهاد العمل

الإجهاد الناتج عن ضغط العمل لا يؤدي فقط إلى الإدمان على المواد، بل يشمل أشكالًا أخرى من الإدمان السلوكي التي غالبًا ما يتم تجاهلها. فيما يلي أبرزها:

الدوائر النفسية المفرغة بين التوتر والإدمان

واحدة من أخطر الظواهر المرتبطة بإجهاد العمل هي تكوين دائرة مفرغة بين التوتر والسلوك الإدماني. فعلى سبيل المثال، قد يبدأ الفرد بشرب الكحول لتخفيف التوتر، لكن هذا السلوك نفسه يؤدي لاحقًا إلى اضطراب في النوم وتدهور الأداء في العمل، ما يؤدي إلى زيادة التوتر وبالتالي زيادة استهلاك الكحول. تتكرر هذه الدورة حتى تُصبح نمطًا دائمًا في الحياة يصعب كسره دون تدخل علاجي متخصص.

العوامل النفسية والاجتماعية المساعدة على الإدمان

لا يُعدّ إجهاد العمل السبب الوحيد في نشوء الإدمان، بل يتفاعل مع عوامل شخصية واجتماعية تسهّل أو تعرقل عملية التكيّف. أبرز هذه العوامل:

• ضعف المهارات التكيفية: مثل عدم القدرة على إدارة الوقت أو ضبط النفس.

• العزلة الاجتماعية: غياب الدعم الاجتماعي يزيد من احتمالات اللجوء للإدمان.

• نمط التفكير الكارثي: الميل لتفسير الأحداث بشكل سلبي متطرف يؤدي إلى مزيد من التوتر.

• الضغوط المالية: خاصة في بيئات العمل غير المستقرة.

• بيئة العمل السامة: التي تتسم بالتنافس الشديد، التنمّر الإداري، أو غياب الأمان الوظيفي.

الإدمان كآلية دفاع نفسية

وفقًا للمدرسة النفسية الديناميكية، يمكن النظر إلى الإدمان كآلية دفاعية لاواعية تهدف لتقليل التوتر النفسي الناتج عن الصراعات الداخلية أو الخارجية. فالشخص الذي يعاني من ضغط دائم في بيئة العمل قد يلجأ للإدمان دون وعي كوسيلة لإخماد القلق أو المشاعر المؤلمة المرتبطة بالفشل، الرفض، أو عدم الإنجاز.

التداعيات الصحية والنفسية

الإدمان الناتج عن إجهاد العمل لا يتوقف عند حدود الفرد فقط، بل يمتد ليؤثر على الأداء المهني، العلاقات الاجتماعية، الصحة الجسدية والعقلية. وتشمل أبرز التداعيات ما يلي:

• القلق والاكتئاب: غالبًا ما يترافق الإدمان مع اضطرابات مزاجية.

• انخفاض الإنتاجية: نتيجة انخفاض التركيز وارتفاع معدلات الغياب.

• الاحتراق النفسي: وهو حالة من الإنهاك التام نتيجة العمل المفرط.

• تدهور العلاقات الأسرية: بسبب التغيّرات السلوكية والتفاعل السلبي مع الآخرين.

• زيادة خطر الأمراض الجسدية: مثل أمراض القلب، السكري، واضطرابات الجهاز الهضمي.

نظريات نفسية داعمة للعلاقة بين الإجهاد والإدمان

عدة نظريات نفسية فسّرت العلاقة بين الإجهاد والإدمان، أبرزها:

• نظرية التكيّف الذاتي (Self-Medication Hypothesis): ترى أن الأفراد يلجأون للمواد أو السلوكيات الإدمانية كوسيلة لعلاج أنفسهم من المشاعر السلبية.

• نظرية المكافأة العصبية: تفترض أن الإدمان ينشأ من البحث المستمر عن المحفزات التي تثير مركز المكافأة في الدماغ.

• نظرية الإحباط والعدوان: ترى أن الإحباط المستمر الناتج عن عدم تحقيق أهداف العمل يُترجم إلى سلوك عدواني على الذات مثل الإدمان.

حلول وقائية وعلاجية

من أجل كسر العلاقة الخطرة بين إجهاد العمل والإدمان، لا بد من تبني نهج شامل يتضمن تدخلات على المستوى الفردي والمؤسساتي. من أبرز هذه الحلول:

على المستوى الفردي:

• تعلم تقنيات إدارة التوتر مثل التأمل، التنفس العميق، وتمارين الاسترخاء.

• تنظيم أوقات العمل والراحة وعدم الانخراط في العمل خارج أوقات الدوام.

• ممارسة الرياضة بانتظام لتحفيز إفراز الإندورفين الطبيعي.

• الحصول على دعم نفسي متخصص في حال ظهور علامات الإدمان.

• المشاركة في مجموعات دعم للتفاعل مع أشخاص يمرون بتجارب مشابهة.

على مستوى بيئة العمل:

• تعزيز ثقافة الرفاه الوظيفي والاهتمام بالصحة النفسية للموظفين.

• توفير خدمات دعم نفسي داخل المؤسسات.

• وضع سياسات تمنع الإجهاد المزمن مثل تقنين عدد ساعات العمل وتشجيع الإجازات.

• تدريب القادة الإداريين على التعامل الإنساني والداعم مع الموظفين.

خاتمة

إن العلاقة بين إجهاد العمل والإدمان هي علاقة معقّدة تتشابك فيها العوامل النفسية والعصبية والاجتماعية، مما يجعلها من الظواهر الأكثر خطورة في المجتمعات الحديثة. ويكمن التحدي الأكبر في أن الكثير من السلوكيات الإدمانية المرتبطة بالإجهاد – مثل العمل المفرط أو استخدام الإنترنت – لا تُعتبر سلوكيات خطرة في ظاهرها، ما يجعل رصدها ومعالجتها أكثر صعوبة. من هنا تبرز أهمية الوقاية من خلال بناء بيئة عمل صحية، وتمكين الأفراد من أدوات التكيّف النفسي السليم، والتدخل المبكر عند ظهور أي علامات لسلوكيات إدمانية.

المراجع:

1. American Psychological Association. (2022). Stress in America Survey.

2. Koob, G. F., & Volkow, N. D. (2016). Neurobiology of addiction: a neurocircuitry analysis. The Lancet Psychiatry.

3. Sinha, R. (2008). Chronic stress, drug use, and vulnerability to addiction. Annals of the New York Academy of Sciences.

4. McEwen, B. S. (2007). Physiology and neurobiology of stress and adaptation: central role of the brain. Physiology Reviews.

5. WHO. (2021). Workplace mental health: WHO guidelines on mental health at work.