البوليميا: اضطراب الأكل القهري

البوليميا: فهم أعمق لمشكلة صحية معقدة

تعدُّ اضطرابات الأكل من القضايا الصحية التي أصبحت تُشكل مصدرًا للقلق في العالم المعاصر، حيث يُقدّر أن العديد من الأشخاص حول العالم يعانون من اضطرابات تتعلق بتناول الطعام سواء كانت متعلقة بالوزن أو بالطريقة التي يتعامل بها الفرد مع طعامه. يُعتبر اضطراب “البوليميا” من أشهر وأخطر هذه الاضطرابات التي تؤثر على الأفراد بشكل نفسي وجسدي في آن واحد. يعكس هذا الاضطراب علاقة غير صحية مع الطعام ويصاحبها عادة سلوكيات غير متوازنة تؤثر على حياة المصابين بها بشكل كبير.

تعريف البوليميا:

البوليميا هي اضطراب في الأكل يتمثل في تناول كميات كبيرة من الطعام في فترة زمنية قصيرة بشكل مفرط، متبوعًا بسلوكيات تهدف إلى التخلص من هذه الكميات من الطعام. قد تشمل هذه السلوكيات القيء المتعمد، أو الإفراط في استخدام الملينات أو التمارين الرياضية القاسية بشكل مفرط. وبالرغم من أن الأشخاص الذين يعانون من البوليميا قد يظهرون أحيانًا في وزن طبيعي أو أقل بقليل من الوزن الطبيعي، إلا أن مشكلتهم تكمن في العلاقة المدمرة التي تتطور لديهم مع الطعام.

أعراض البوليميا:

تتمثل أعراض البوليميا في عدة مظاهر جسدية ونفسية، وتُعد علامات هذا الاضطراب أكثر وضوحًا في سلوكيات الأفراد والمشاعر التي يعانون منها. من أهم الأعراض التي قد تشير إلى البوليميا ما يلي:

1. الإفراط في تناول الطعام: حيث يأكل الشخص كميات كبيرة من الطعام في فترة قصيرة، ويشعر بعدم القدرة على التحكم في كمية الطعام التي يستهلكها.

2. التخلص من الطعام: بعد الإفراط في تناول الطعام، يقوم المصاب بممارسة سلوكيات لتجنب زيادة الوزن، مثل القيء المتعمد أو الإفراط في ممارسة التمارين الرياضية أو استخدام الملينات.

3. مشاعر الذنب أو الخجل: يشعر الشخص الذي يعاني من البوليميا بالذنب الشديد بعد تناول الطعام بشكل مفرط، مما يدفعه إلى محاولة التخلص من الطعام بطريقة قاسية.

4. التركيز على صورة الجسد: يظهر المصاب بالبوليميا اهتمامًا مفرطًا بشكل جسمه ويشعر بالخوف الشديد من زيادة الوزن، مما يجعله يعاني من قلق دائم بشأن مظهره.

5. تغييرات في الوزن: قد يعاني الشخص من تقلبات كبيرة في وزنه نتيجة لفترات من الإفراط في الأكل يتبعها محاولات التخلص من الطعام.

6. السلوكيات السرية: يُخفي المصابون بالبوليميا سلوكياتهم، مما يجعل هذا الاضطراب من الصعب اكتشافه في المراحل المبكرة. غالبًا ما يتجنب الأفراد الذين يعانون من البوليميا تناول الطعام أمام الآخرين أو يخفون سلوكياتهم المتعلقة بالتخلص من الطعام.

الأسباب والعوامل المؤثرة في البوليميا:

البوليميا لا تنشأ من سبب واحد، بل هي نتيجة لمجموعة من العوامل البيئية والنفسية والبيولوجية التي تتداخل مع بعضها البعض. يمكن تلخيص أهم العوامل التي تؤدي إلى تطور البوليميا في النقاط التالية:

1. العوامل النفسية: تعتبر الاضطرابات النفسية مثل القلق والاكتئاب والتوتر من العوامل الرئيسية التي تساهم في نشوء البوليميا. يشعر العديد من المصابين بالبوليميا بعدم الراحة النفسية، ويستخدمون الطعام كوسيلة للتعامل مع مشاعرهم السلبية.

2. العوامل الاجتماعية والثقافية: تسهم وسائل الإعلام والمجتمع في تعزيز مفاهيم الجمال المثالية، مما يجعل بعض الأفراد يسعون بشكل مفرط للانخراط في معايير جمال غير واقعية، ويشعرون بالضغط لامتلاك أجسام “مثالية” بناءً على هذه المعايير.

3. التاريخ العائلي: يمكن أن تلعب العوامل الوراثية دورًا في خطر الإصابة بالبوليميا. فقد أظهرت الدراسات أن الأفراد الذين لديهم تاريخ عائلي من اضطرابات الأكل يكونون أكثر عرضة للإصابة بهذا الاضطراب.

4. الضغوطات الحياتية: تجارب الحياة المرهقة مثل الطلاق، وفقدان شخص عزيز، أو الضغط الأكاديمي أو الاجتماعي يمكن أن تساهم في تطوير البوليميا، حيث يلجأ الفرد إلى الطعام كوسيلة لتخفيف التوتر والقلق.

5. العوامل البيولوجية: قد تكون هناك تغيرات في بعض المواد الكيميائية في الدماغ، مثل السيروتونين والدوبامين، والتي تؤثر على الشعور بالراحة والسعادة. يعتقد بعض العلماء أن اختلال التوازن في هذه المواد قد يساهم في تطور الاضطرابات المرتبطة بالأكل مثل البوليميا.

تأثير البوليميا على الصحة:

تؤثر البوليميا على الجسم بطريقة كبيرة، وقد تتسبب في العديد من المشاكل الصحية الخطيرة إذا لم يتم معالجتها في وقت مبكر. من أبرز هذه التأثيرات:

1. تأثيرات على الجهاز الهضمي: يمكن أن يؤدي القيء المتكرر إلى تآكل المينا في الأسنان، مما يسبب التسوس. كما أن الإفراط في استخدام الملينات يمكن أن يؤدي إلى اضطراب في وظائف الأمعاء، مما يسبب الإمساك المزمن.

2. مشاكل القلب والأوعية الدموية: قد يعاني الأشخاص الذين يتبعون سلوكيات مفرطة مثل القيء المتكرر أو الإفراط في استخدام الملينات من مشاكل في توازن الأملاح في الدم، مما يزيد من خطر الإصابة بمشاكل في القلب مثل اضطرابات النبض.

3. اختلال التوازن الهرموني: يمكن أن تؤدي البوليميا إلى تغييرات في مستويات الهرمونات، مما قد يؤدي إلى اضطرابات في الدورة الشهرية لدى النساء وفقدان العظام في حالات معينة.

4. التأثير النفسي: غالبًا ما يعاني المصابون بالبوليميا من القلق والاكتئاب بسبب شعورهم بالذنب المستمر وعدم الرضا عن مظهرهم الجسدي. يمكن أن يؤدي ذلك إلى عزل اجتماعي، مما يزيد من تفاقم المشكلة النفسية.

طرق العلاج والتعافي:

يتطلب علاج البوليميا نهجًا متعدد الجوانب يشمل العلاج النفسي، والرعاية الطبية، والدعم الاجتماعي. من بين أساليب العلاج المتاحة:

1. العلاج النفسي: يُعد العلاج المعرفي السلوكي من أكثر أساليب العلاج فعالية لعلاج البوليميا، حيث يساعد المرضى على فهم سلوكياتهم وتغيير الطريقة التي يفكرون بها حول الطعام والجسم. يعمل المعالجون على مساعدة المرضى في التعامل مع مشاعرهم وتطوير استراتيجيات صحية للتعامل مع الضغوط.

2. الأدوية: قد يصف الأطباء أدوية مضادة للاكتئاب أو القلق لعلاج بعض الأعراض النفسية المرتبطة بالبوليميا. قد تساعد هذه الأدوية في تحسين التوازن الكيميائي في الدماغ، مما يساهم في تقليل الرغبة في سلوكيات الأكل القهرية.

3. التغذية العلاجية: يمكن أن يتطلب المرضى الذين يعانون من البوليميا تدخلًا من أخصائي تغذية لإعادة تأهيل علاقتهم مع الطعام. يساعد الأخصائي المرضى في تطوير نظام غذائي صحي ومتوازن يساعد على استعادة وظائف الجسم الطبيعية.

4. الدعم الاجتماعي: يمكن أن يكون الدعم الاجتماعي من الأهل والأصدقاء جزءًا مهمًا من عملية التعافي. يلعب الدعم العاطفي دورًا حيويًا في مساعدة المرضى على تجاوز هذه الفترة الصعبة.

الخاتمة:

البوليميا هي اضطراب معقد يشمل مزيجًا من العوامل النفسية والجسدية التي تؤثر على حياة الأفراد بشكل عميق. فهم هذا الاضطراب والتعرف على أعراضه وأسبابه يمكن أن يكون خطوة مهمة نحو العلاج. ومع تقدم الأبحاث في هذا المجال، أصبح من الممكن تقديم العلاجات الفعّالة التي تساهم في تحسين حياة المصابين. علاج البوليميا يتطلب جهدًا مشتركًا من الأطباء، والأخصائيين النفسيين، وأفراد الأسرة، وهو عملية تستغرق وقتًا وطاقة. لكن مع الدعم المناسب، يمكن للأفراد الذين يعانون من هذا الاضطراب أن يحققوا تعافيًا كاملًا ويستعيدوا حياتهم الصحية والنفسية.