إبراهيم محمد علي باشا: مؤسس مصر الحديثة ورائد النهضة العربية

يُعد إبراهيم محمد علي باشا أحد أبرز الشخصيات العسكرية والسياسية في التاريخ العربي الحديث، وأحد أركان النهضة التي شهدتها مصر في القرن التاسع عشر. لم يكن مجرد قائد عسكري فذ، بل كان أيضًا رجل دولة محنكًا أسهم في وضع أسس الدولة المركزية الحديثة في مصر، وساهم بشكل فعّال في نقل التجربة الأوروبية الحديثة إلى العالم العربي. وعلى الرغم من أن والده محمد علي باشا هو مؤسس الأسرة العلوية، فإن إبراهيم باشا استحق مكانته في التاريخ بفضل إنجازاته الذاتية التي تفوق بها في ميادين الحكم والحرب والإدارة.

النشأة والخلفية العائلية

وُلد إبراهيم محمد علي باشا في عام 1789 في مدينة قولة بمقدونيا، وهي جزء من الدولة العثمانية آنذاك (اليونان اليوم). وهو الابن الأكبر لمحمد علي باشا والي مصر ومؤسس الأسرة العلوية. نشأ في كنف والده خلال مرحلة التكوين الصعبة التي شهدت بناء الدولة الحديثة في مصر، حيث تلقى تدريبًا عسكريًا صارمًا منذ صغره، وتعلّم إدارة الجند، وتنظيم الشؤون الإدارية والمالية، وفق النظم الأوروبية الحديثة التي بدأ محمد علي في إدخالها إلى مصر.

لقد لعب والده دورًا أساسيًا في تهيئته لدور قيادي في الدولة المصرية الناشئة، فأسند إليه مهامًا عسكرية وإدارية مبكرة كي يثبت كفاءته، وهو ما تحقق بالفعل خلال السنوات اللاحقة، حيث أصبح إبراهيم باشا الذراع العسكرية الأقوى لمحمد علي باشا، ومهندس التوسعات المصرية خارج حدود وادي النيل.

الدور العسكري والسياسي لإبراهيم باشا

الحرب ضد الوهابيين في الجزيرة العربية

أول ظهور لافت لإبراهيم باشا على المسرح العسكري والسياسي كان في شبه الجزيرة العربية، عندما أرسله والده لقيادة الحملة المصرية ضد الحركة الوهابية في الحجاز ونجد، بعد أن كُلف محمد علي من قبل السلطان العثماني بهذه المهمة. كانت هذه الحملة أحد أكثر النزاعات الدينية والسياسية حساسية في تلك الفترة، إذ تمثل الدعوة الوهابية نوعًا من الإصلاح الديني الذي اعتبرته الدولة العثمانية تهديدًا لسلطتها الدينية والسياسية.

قاد إبراهيم باشا الحملة ببراعة، وتمكن بعد سلسلة من المعارك الشاقة في الصحراء من السيطرة على معاقل الوهابيين، ومن ثم القبض على الأمير عبد الله بن سعود الكبير في عام 1818، والذي أُرسل إلى إسطنبول حيث تم إعدامه. وقد أظهر إبراهيم باشا خلال هذه الحملة كفاءة عسكرية وقدرة على إدارة الجيوش في بيئات معقدة جغرافيًا ودينيًا وسياسيًا.

الحملة على السودان

بعد نجاحه في الجزيرة العربية، كلفه والده بحملة على السودان سنة 1820، وكان الهدف منها تأمين منابع النيل وتوسيع نفوذ الدولة المصرية جنوبًا. وقد واجهت الحملة تحديات كبيرة نظرًا لطبيعة التضاريس والمناخ في السودان، فضلًا عن مقاومة القبائل المحلية، إلا أن إبراهيم باشا تمكن من فرض سيطرته على مناطق واسعة، وأسهم في ترسيخ الحكم المصري في السودان، الذي استمر حتى نهاية القرن التاسع عشر.

الحرب اليونانية ودوره في مقاومة الثورة

خلال ثورة اليونانيين ضد الدولة العثمانية في عشرينيات القرن التاسع عشر، طلب السلطان العثماني من محمد علي باشا التدخل لإخماد الثورة. فأرسل إبراهيم باشا على رأس حملة عسكرية كبيرة إلى المورة (جنوب اليونان). وقد أبدى براعة عسكرية كبيرة في مواجهة الثوار اليونانيين، إلا أن التدخل الأوروبي وخصوصًا بعد معركة نافارين البحرية سنة 1827، والتي أدت إلى تدمير الأسطول المصري-العثماني، اضطر مصر للانسحاب، رغم النجاحات الميدانية التي حققها إبراهيم باشا.

حرب الشام ومعركة قونية

أعظم إنجازات إبراهيم باشا العسكرية كانت في حرب الشام ضد الدولة العثمانية بين عامي 1831 و1833. قاد حملة ضخمة للسيطرة على بلاد الشام (سوريا الكبرى)، وحقق انتصارات مبهرة شملت الاستيلاء على دمشق، حمص، حلب، وحتى مدينة قونية في الأناضول، حيث سحق الجيش العثماني بقيادة رشيد باشا في معركة قونية في ديسمبر 1832، ووصلت جيوشه إلى أبواب إسطنبول.

أُجبرت الدولة العثمانية على توقيع “معاهدة كوتاهية” عام 1833، التي أقرت بسيطرة مصر على بلاد الشام، مما منح محمد علي وابنه إبراهيم مكانة دولية كبرى. غير أن القوى الأوروبية، وعلى رأسها بريطانيا وروسيا، رأت في توسع نفوذ محمد علي تهديدًا لتوازن القوى في المنطقة، فتدخلت في سنوات لاحقة للحد من هذا التوسع، خصوصًا بعد محاولة جديدة لإبراهيم باشا في عام 1839 لتوسيع نفوذه، حيث نشبت حرب جديدة انتهت بتراجع النفوذ المصري عن بلاد الشام بموجب معاهدة لندن عام 1840.

إصلاحاته الإدارية وتأثيره على النهضة المصرية

رغم أن دوره العسكري يطغى على الجوانب الأخرى من شخصيته، فإن إبراهيم باشا كان أيضًا إداريًا قديرًا. فقد عُين واليًا على مصر لفترات قصيرة أثناء غياب والده أو مرضه، وكان خلال تلك الفترات حريصًا على تطبيق نفس المنهج الإصلاحي الذي بدأه محمد علي باشا، من تحديث الجيش، وتطوير التعليم، وإنشاء المصانع، وتوسيع الري والزراعة.

ومن أبرز خطواته الإصلاحية:

• تنظيم الجباية: عمل على إصلاح النظام الضريبي وتقنين الضرائب بطريقة أكثر عدالة.

• تعزيز التعليم: دعم المدارس الحديثة التي أنشأها والده، وشجع إرسال البعثات التعليمية إلى أوروبا.

• تحسين البنية التحتية: واصل العمل في مشروعات الري والزراعة، بما في ذلك شق الترع وتحسين الأراضي الزراعية.

• الحد من فساد البكوات: تصدى لتغول البكوات المماليك السابقين، وسعى لتكريس سلطة الدولة المركزية الحديثة.

الجدول: الحملات العسكرية الكبرى لإبراهيم باشا

الخصائص الشخصية والقيادية

اتسم إبراهيم باشا بشخصية قوية، وكان محاربًا صلبًا لا يعرف التراجع. عرف عنه حبه للنظام والانضباط، وقدرته على اتخاذ قرارات حاسمة في أوقات الأزمات. كما كان واسع الاطلاع على الشؤون الأوروبية، وهو ما مكّنه من إدخال عناصر من النظم العسكرية والإدارية الغربية إلى مصر.

ورغم قوته العسكرية، كان يتسم بالمرونة السياسية في التعامل مع العثمانيين والدول الأوروبية، إذ أدرك في مراحل معينة حدود القوة، وسعى إلى الحفاظ على مكاسب مصر السياسية حتى في ظل توازنات دولية معقدة.

نهاية المسيرة والوفاة

بحلول عام 1848، كان محمد علي باشا قد شارف على نهايته بعد أن أصيب بالخرف، فعُين إبراهيم باشا واليًا رسميًا على مصر، ولكن حالته الصحية كانت قد تدهورت هو الآخر نتيجة مرض السل. لم يلبث طويلًا في الحكم، حيث توفي في العاشر من نوفمبر عام 1848 عن عمر ناهز 59 عامًا، ودُفن في مسجد محمد علي باشا بقلعة القاهرة.

وقد خلفه في الحكم ابن أخيه عباس حلمي الأول، لتنتهي بذلك حقبة من أعظم الحقب في تاريخ مصر الحديث، والتي وضع خلالها إبراهيم باشا مع والده اللبنات الأولى لبناء دولة مركزية قوية، ذات مؤسسات حديثة، تأثرت بشكل عميق بالنموذج الأوروبي، لكنها بقيت في جوهرها محكومة من نخبة محلية وضعت مصلحة البلاد فوق كل اعتبار.

إرث إبراهيم باشا

يشكل إرث إبراهيم باشا جزءًا محوريًا من ذاكرة التحديث في العالم العربي. فإلى جانب والده، يعد من أبرز من تصدوا لمشروع إعادة بناء الدولة على أسس حديثة، من خلال الجمع بين عناصر النهضة الأوروبية والهوية المحلية. وكانت حملاته العسكرية وتجربته في الحكم نموذجًا يحتذى به، سواء في الإرادة السياسية القوية، أو في القدرة على إصلاح المؤسسات.

كما أن التجربة المصرية في عصره أثرت في تفكير الإصلاحيين العرب في نهاية القرن التاسع عشر، من أمثال رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وغيرهم ممن رأوا في التجربة الخديوية نموذجًا للنهضة المتوازنة التي لا تقطع صلتها بالماضي، ولكنها تنفتح على العصر.

المراجع

• Al-Jabarti, Abd al-Rahman. History of Egypt. Translated and edited by Thomas Philipp and Moshe Perlmann. Franz Steiner Verlag, 1994.

• Fahmy, Khaled. All the Pasha’s Men: Mehmed Ali, His Army and the Making of Modern Egypt. Cambridge University Press, 1997.