أول قاضٍ في الكوفة: عبد الله بن مسعود

من أول قاضٍ في الكوفة: جذور القضاء الإسلامي في قلب العراق

تُعدّ الكوفة إحدى أهم الحواضر الإسلامية التي نشأت بعد الفتح الإسلامي في العراق، وقد لعبت دورًا محوريًا في التاريخ الإسلامي، سواء على الصعيد الديني أو السياسي أو الفقهي. ولأن المدينة سرعان ما تحولت إلى مركز مهم من مراكز الحكم والعلم، فقد تطلب ذلك تنظيمًا إداريًا وقضائيًا محكمًا يتماشى مع متطلبات المسلمين الجدد في هذه الرقعة الجغرافية المهمة. ومن بين أبرز تلك التنظيمات، كان تعيين القضاة للفصل في النزاعات والخصومات بين الناس، وضمان سير العدالة. وتاريخ القضاء في الكوفة يرتبط باسم أحد الشخصيات البارزة في تاريخ الإسلام، وهو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، الذي يعتبر أول قاضٍ في الكوفة، وأحد أعمدة الفقه الإسلامي في صدر الإسلام.

تأسيس الكوفة ودورها في التوسع الإسلامي

الكوفة لم تكن مجرد مدينة جديدة أُنشئت لتكون ثكنة عسكرية فحسب، بل غدت خلال فترة قصيرة مركزًا حضاريًا وعلميًا كبيرًا، وبرزت فيها أنشطة علمية وفقهية واقتصادية مهمة. تأسست الكوفة سنة 17 هـ في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك بعد أن استقر المسلمون في العراق وبدأوا في تنظيم المناطق المفتوحة إداريًا وسياسيًا. واختير لها موقع استراتيجي على ضفاف نهر الفرات، لتكون نقطة اتصال بين الحجاز، والشام، وفارس، مما منحها أهمية بالغة.

مع نمو الكوفة وازدياد عدد سكانها، خاصة من العرب المسلمين، كانت الحاجة ملحة لتنظيم العلاقات بين الناس تحت سلطة قضائية تضمن الحقوق وتفصل في المنازعات بما يتماشى مع الشريعة الإسلامية. ومن هنا ظهرت الحاجة إلى تعيين قاضٍ عادل يتمتع بالكفاءة والعدالة وسعة العلم.

الصحابي عبد الله بن مسعود: أول قاضٍ في الكوفة

عندما نتحدث عن عبد الله بن مسعود، فإننا نتحدث عن واحد من أعظم الصحابة، الذين اختصهم النبي محمد ﷺ بعناية خاصة، فكان ممن سبقوا إلى الإسلام، ولازمه طول حياته، وتعلم منه القرآن والفقه. وُصف ابن مسعود بأنه “صاحب نعل رسول الله”، إذ كان يحمل له نعليه ويتولى شؤونه، وكان من أوائل من حفظ القرآن وعمل على تعليمه وتفسيره.

حين فتح المسلمون العراق، ورأى الخليفة عمر بن الخطاب الحاجة لتنظيم الأمور في الكوفة، أرسل عبد الله بن مسعود إلى الكوفة ليكون معلمًا وقاضيًا وأمينًا لبيت المال، وذلك نظراً لما عُرف به من صلاح وتقوى وسعة علم. لم يكن ابن مسعود مجرد موظف إداري، بل كان نموذجًا للقاضي العالم العادل، يجمع بين التقوى والفقه والبصيرة، ويطبّق أحكام الإسلام بعدل وإنصاف، مما أسهم في ترسيخ أسس القضاء الإسلامي في تلك المنطقة الناشئة.

سمات عبد الله بن مسعود التي أهلته لمنصب القضاء

لم يكن اختيار عبد الله بن مسعود لهذا المنصب مصادفة، بل كان نتاجاً لتراكم من الصفات والخبرات التي أهلته ليكون أول قاضٍ في الكوفة. ومن أبرز هذه السمات:

• سعة علمه بالقرآن والسنة: فقد كان من أكثر الصحابة حفظاً للقرآن، حتى قال عنه النبي ﷺ: “من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد”، وهو الاسم الذي كان يُعرف به ابن مسعود.

• عدالته وتقواه: تميز ابن مسعود بتقوى راسخة، وكان يُعرف بشدة ورعه وعدله، وهو ما يتطلبه منصب القضاء.

• معايشته للرسول ﷺ: عايش النبي عن قرب، وسمع منه مباشرةً، ما جعله مرجعًا في الفتوى والفقه، إذ إنه شهد تنزيل الوحي وعاصر نشأة التشريع.

• فهمه العميق لأحوال الناس: كان يملك فهماً عميقاً لطبيعة المجتمعات، خاصة أن الكوفة كانت تضم خليطاً من القبائل والمهاجرين والأنصار والفرس، ما استدعى فهماً دقيقاً للتعامل مع القضايا المتعددة التي كانت تعرض عليه.

دور عبد الله بن مسعود في تأسيس المدرسة الفقهية بالكوفة

القضاء لم يكن الجانب الوحيد في مهمة ابن مسعود بالكوفة، بل ساهم بشكل مباشر في تأسيس مدرسة فقهية امتدت تأثيراتها لقرون لاحقة. فقد تتلمذ على يديه العديد من التابعين والعلماء، مثل علقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وشريح القاضي، وهؤلاء بدورهم شكلوا نواة الفكر الفقهي الذي تطور لاحقًا في الكوفة.

وكانت المدرسة الفقهية بالكوفة تميل إلى الرأي والاجتهاد، باعتبار أن البيئة الجديدة التي لم تكن موجودة في الحجاز تطلبت النظر والاجتهاد في الكثير من القضايا، ما جعل هذه المدرسة متميزة في منهجها. وتطورت هذه المدرسة لاحقًا على يد الإمام أبي حنيفة النعمان، الذي تأثر كثيرًا بفكر عبد الله بن مسعود والمدرسة الكوفية.

العلاقة بين القضاء والسياسة في الكوفة

القضاء في الكوفة لم يكن منعزلاً عن السياسة، بل كان جزءًا من إدارة الدولة الإسلامية. وكان القاضي بمثابة ممثل للخليفة أو الوالي في الأمور القضائية. إلا أن عبد الله بن مسعود، بحكمته وورعه، حافظ على استقلالية منصبه، ولم يكن يتردد في قول الحق مهما كانت الظروف. وهذا ما أكسبه احترامًا كبيرًا بين الناس، وكان سببًا في ترسيخ الثقة بالقضاء.

وكان ذلك ظاهرًا في مواقف متعددة له، مثل رفضه تولي الإمارة حين عرضها عليه الخليفة عمر، مكتفيًا بمنصب القضاء والتعليم، معتبرًا أن الأمانة في القضاء أكبر من الطمع في المناصب السياسية.

تطور القضاء في الكوفة بعد ابن مسعود

بعد وفاة عبد الله بن مسعود، استمر منصب القضاء في الكوفة، وتعاقب عليه عدد من كبار التابعين والعلماء، من أبرزهم:

• شريح القاضي: وهو من أبرز قضاة التابعين، تميز بحكمته وعدالته، واستمر في منصب القضاء أكثر من أربعين سنة.

• إبراهيم النخعي: أحد كبار فقهاء الكوفة، وقد تتلمذ على يد تلاميذ ابن مسعود.

• حماد بن أبي سليمان: أحد تلامذة إبراهيم النخعي، وشيخ الإمام أبي حنيفة.

ومن خلال هذه السلسلة، يتضح أن القضاء في الكوفة لم يكن مجرد وظيفة، بل كان مؤسسة تعليمية وتشريعية أثرت تأثيرًا عميقًا في نشأة الفقه الإسلامي وتطوره.

الجدول الزمني لتطور القضاء في الكوفة

أثر ابن مسعود في الفكر القضائي الإسلامي

يُعتبر ابن مسعود من أوائل من وضعوا معايير واضحة في القضاء الإسلامي، منها:

• تحري الدليل من القرآن والسنة أولاً: ثم اللجوء إلى الاجتهاد إذا لم يجد نصًا واضحًا.

• اعتماد العدل أساسًا في الحكم: دون الميل لأي طرف مهما كان قربه أو مكانته.

• النصيحة للحكام دون مجاملة: كان يوصي الخلفاء والولاة بالعدل ويحاسبهم على أفعالهم.

• التيسير ورفع الحرج عن الناس: حيث كان يراعي أحوال الناس عند إصدار الأحكام.

كل هذه المبادئ شكلت الأساس للقضاء الإسلامي في العصور التالية، وأسهمت في بناء منظومة قضائية متكاملة.

خاتمة: إرث متجذر في ذاكرة الإسلام

يشكل عبد الله بن مسعود نموذجاً للقاضي المسلم الكامل في علمه، وعدله، وزهده، وإخلاصه. وقد كان له دور محوري في نقل القضاء من كونه وظيفة إدارية إلى كونه مؤسسة تشريعية فكرية تخرّج العلماء وتؤصل للفقه. وقد استفادت الأمة الإسلامية من أثره قرونًا طويلة، واستمر تأثير مدرسته في الفقه حتى العصر العباسي وما بعده.

ليس من المبالغة القول إن الكوفة لولا ابن مسعود، ما كانت لتصبح المركز الفقهي الكبير الذي أنجبت منه مدرسة أبي حنيفة ومئات العلماء الذين أثروا العالم الإسلامي بعلومهم. وقد ترك بذلك إرثاً لا يزال حياً في مبادئ القضاء وعلوم الفقه إلى يومنا هذا.

المراجع:

• الطبري، تاريخ الأمم والملوك

• ابن سعد، الطبقات الكبرى