أول دولة إسلامية منحت المرأة حق الانتخاب: دراسة تاريخية وتحليل سياسي واجتماعي

المقدمة

يُعد منح المرأة حق الانتخاب خطوة فارقة في تاريخ الشعوب، ومرآة تعكس مدى تطور المجتمعات من حيث القيم المدنية والسياسية. وفي السياق الإسلامي، تتسم هذه القضية بحساسية خاصة نظراً للتداخل بين التقاليد الثقافية والدينية والسياسية، وهو ما جعل الكثير من الدول الإسلامية تتفاوت في توقيت ومدى منح هذا الحق للمرأة. على الرغم من ذلك، برزت بعض الدول الإسلامية التي اتخذت زمام المبادرة في هذا المجال، وقطعت شوطاً متقدماً في سبيل تمكين المرأة سياسياً. في طليعة هذه الدول، برزت تركيا كأول دولة ذات أغلبية مسلمة تمنح المرأة حق الانتخاب والترشح للمناصب السياسية. هذا الحدث لا يعد فقط إنجازاً تشريعياً بل يمثل تحولاً جوهرياً في بنية المجتمع التركي في بدايات القرن العشرين، ويعكس التأثير العميق للإصلاحات الكمالية التي غيرت وجه تركيا الحديثة.

الخلفية التاريخية: المرأة في المجتمعات الإسلامية قبل القرن العشرين

قبل الخوض في تفاصيل منح حق الانتخاب للمرأة في الدول الإسلامية، من الضروري الإشارة إلى الوضع العام للمرأة في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة قبل القرن العشرين. عرفت المجتمعات الإسلامية أدواراً متعددة للمرأة عبر العصور، فكانت في بعض الفترات تشارك في الحياة العامة، وفي فترات أخرى تُحصر في المجال الأسري والمنزلي. ومع بزوغ الدولة الحديثة وتأثرها بالأفكار الغربية والنهضوية، بدأت فكرة المشاركة السياسية للمرأة تبرز على السطح، ولكنها كانت تقابل غالباً بمقاومة شديدة من التيارات المحافظة.

تركيا: رائدة الإصلاحات النسوية في العالم الإسلامي

تأسيس الجمهورية التركية

عقب سقوط الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أُسست الجمهورية التركية عام 1923 بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، الذي بدأ في تنفيذ سلسلة من الإصلاحات الشاملة لتحديث الدولة وتغريبها. وقد شملت هذه الإصلاحات جميع مناحي الحياة من التعليم والقانون إلى اللباس والسياسة. ومن ضمن أبرز هذه الإصلاحات: تمكين المرأة وإشراكها في الحياة العامة.

خطوات منح المرأة التركية حق الانتخاب

شهدت تركيا مجموعة من القوانين التي مهّدت تدريجياً لمشاركة المرأة في الحياة السياسية:

• عام 1926: تم إقرار القانون المدني الجديد الذي ألغى تعدد الزوجات ومنح المرأة حقوقاً قانونية في الزواج والطلاق والميراث.

• عام 1930: سُمح للمرأة بالمشاركة في الانتخابات البلدية، وهي الخطوة الأولى نحو إشراكها في الحياة السياسية.

• عام 1934: كان الحدث الأبرز، حيث أقر البرلمان التركي قانوناً يمنح المرأة حق الانتخاب والترشح للبرلمان، لتصبح تركيا بذلك أول دولة ذات أغلبية مسلمة تمنح المرأة هذا الحق.

وقد تم تفعيل هذا القرار في الانتخابات البرلمانية التي جرت في عام 1935، حيث ترشحت وفازت 18 امرأة بمقاعد في البرلمان التركي، وهو رقم لافت في حينه.

الجدول الزمني لإصلاحات المرأة في تركيا

السياق الدولي والإقليمي

في الوقت الذي منحت فيه تركيا المرأة هذا الحق، كانت العديد من الدول الأوروبية نفسها لم تحقق ذلك بعد. فقد حصلت المرأة الفرنسية على حق التصويت في عام 1944، والبلجيكية في 1948، والإيطالية في 1946. أما في العالم العربي، فقد تأخرت هذه الخطوة لعقود لاحقة.

على سبيل المثال:

• مصر: منحت المرأة حق الانتخاب والترشح عام 1956.

• تونس: في عام 1957.

• الكويت: تأخرت حتى عام 2005.

• السعودية: سمحت للمرأة بالتصويت والترشح في المجالس البلدية فقط بدءاً من عام 2015.

هذا يدل على أن الخطوة التركية كانت سبّاقة بالفعل في العالم الإسلامي بل وتفوقت على عدد من الدول الأوروبية.

العوامل التي ساعدت تركيا على تبني هذا القرار مبكراً

1. شخصية مصطفى كمال أتاتورك

لا يمكن الحديث عن أي إصلاح سياسي أو اجتماعي في تركيا الحديثة دون التطرق إلى شخصية مصطفى كمال أتاتورك. فقد تبنى أتاتورك رؤية علمانية وحداثية لمستقبل تركيا، وكان يؤمن بضرورة تحرير المرأة وتمكينها لتكون جزءاً من عملية بناء الدولة الحديثة. وهو من القادة القلائل في العالم الإسلامي الذين تبنوا إصلاحات جذرية في زمن قصير، وكان لإرادته السياسية دور حاسم في تبني سياسات تقدمية لصالح المرأة.

2. تغريب النظام القانوني

عمدت الجمهورية التركية إلى استبدال الشريعة الإسلامية كنظام قانوني بالقانون المدني السويسري، الذي يُعتبر من أكثر القوانين المدنية تحرراً من حيث حقوق المرأة. وقد مكّن هذا التغيير من وضع إطار قانوني متكامل يضمن للمرأة حقوقها السياسية والمدنية.

3. التأثر بالحركات النسوية العالمية

شهد النصف الأول من القرن العشرين نشاطاً كبيراً للحركات النسوية في أوروبا وأمريكا الشمالية، ووجد هذا الصدى طريقه إلى النخب المثقفة التركية. فالنخبة التركية، التي كانت قد درست في الخارج وتأثرت بالحداثة الأوروبية، رأت في تمكين المرأة ضرورة حضارية لبناء مجتمع حديث.

4. بناء هوية قومية جديدة

سعت الجمهورية التركية إلى القطيعة مع الماضي العثماني وبناء هوية جديدة تقوم على القومية التركية والحداثة، وكان إشراك المرأة في الحياة السياسية أحد رموز هذا التحول. إذ اعتُبر تمكين المرأة مؤشراً على التقدم والحداثة، ورمزاً لكسر القيود التقليدية.

تأثير القرار على المجتمع التركي

رغم أن منح المرأة التركية حق الانتخاب والترشح كان خطوة متقدمة قانونياً، إلا أن التحديات الاجتماعية والثقافية كانت كبيرة. لم تكن المرأة الريفية على دراية بحقوقها، وكانت النخب النسائية في المدن هي من استفادت فعلياً من هذا التحول في العقود الأولى. ومع مرور الوقت وتوسع التعليم، بدأت نسبة مشاركة المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية بالارتفاع تدريجياً.

اليوم، أصبحت تركيا واحدة من الدول التي تشهد حضوراً نسائياً ملحوظاً في السياسة، رغم أن التحديات لا تزال قائمة، خاصة في ظل التوترات السياسية والاجتماعية المتعلقة بالهوية الدينية والعلمانية.

مقارنة بين الدول الإسلامية في منح المرأة حق الانتخاب

لإعطاء نظرة شاملة حول تطور هذا الحق في الدول ذات الأغلبية المسلمة، يمكن تقديم جدول يوضح تواريخ منح المرأة هذا الحق:

الخلاصة

شكّل منح المرأة حق الانتخاب في تركيا عام 1934 لحظة فارقة في التاريخ السياسي الإسلامي، ليس فقط لكونه سابقة قانونية في دولة ذات غالبية مسلمة، ولكن أيضاً لكونه خطوة ضمن مشروع وطني شامل لتحويل تركيا من دولة عثمانية تقليدية إلى جمهورية علمانية حديثة. وعلى الرغم من أن التطبيق العملي للحقوق السياسية للمرأة احتاج إلى عقود من العمل المجتمعي والتوعوي، فإن التجربة التركية تبقى نموذجاً تاريخياً لدراسة كيف يمكن أن تؤثر الإرادة السياسية والإصلاحات المؤسسية في تغيير المواقف الاجتماعية والثقافية تجاه قضايا تمكين المرأة.

إن هذه التجربة تسلط الضوء أيضاً على التفاعل المعقد بين العوامل الدينية والثقافية والسياسية في المجتمعات الإسلامية، وتبرز أهمية التدرج، والتخطيط، والإرادة السياسية في أي مشروع يسعى إلى إدماج المرأة في الفضاء العام. ورغم أن بعض الدول الإسلامية لا تزال تشهد نقاشات محتدمة حول حقوق المرأة السياسية، فإن التجربة التركية تثبت أن التغيير ممكن، بل وضروري، لتحقيق التوازن المجتمعي والتنمية الشاملة.

المراجع

• Zürcher, Erik J. Turkey: A Modern History. I.B. Tauris, 2004.

• Kandiyoti, Deniz. Women, Islam and the State. Temple University Press, 1991.