صحة حديث رضاع الكبير

ما صحة حديث رضاع الكبير؟ دراسة حديثية وفقهية شاملة

يُعتبر “حديث رضاع الكبير” من أكثر الأحاديث إثارة للجدل في التراث الإسلامي، وهو حديث ورد في مصادر الحديث المعتمدة ويتناول مسألة إرضاع المرأة لرجل كبير بهدف رفع الحرمة في الخلوة والمعاملة. وقد تناول العلماء هذا الحديث من زوايا متعددة، فقهية وحديثية وأصولية، ما بين مثبت له في سياقه ومُنكِر له بمعناه أو تأويله. تتطلب هذه المسألة معالجة علمية دقيقة، قائمة على تتبع الروايات، وتحقيق الأسانيد، وتحليل الآراء الفقهية، في ضوء مقاصد الشريعة وأصولها العامة.

نص حديث رضاع الكبير كما ورد في الصحيح

ورد حديث رضاع الكبير في صحيح مسلم وغيره، والنص كما يلي:

عن عائشة رضي الله عنها أن سالم مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فدخلوا عليه كما يدخلون على أبنائهم، فأنكرت ذلك، فأخبرها النبي ﷺ أن ترضعه ليرتفع حكم الخلوة، فقالت عائشة: «كان فيما أنزل الله عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله ﷺ وهن فيما يُقرأ من القرآن».

وفي رواية أخرى عند مسلم:

«أن أبا حذيفة، وكان قد تبنّى سالماً، وكان يرى أنه ابنه، فلما أُنزل في القرآن ما أُنزل في شأن التبنّي، قالت له زوجته سهلة بنت سهيل: يا رسول الله، إن سالم يدخل علينا وقد وجد أبو حذيفة في نفسه. فقال النبي ﷺ: أرضعيه تحرمي عليه».

سند الحديث وصحته

حديث رضاع الكبير ثابت في صحيح مسلم، وهو من الأحاديث الصحيحة التي لا مطعن في سندها، وقد صححه جماعة من العلماء مثل الإمام النووي وابن حجر العسقلاني. ومع ذلك، فإن قبول الحديث من حيث السند لا يعني قبوله من حيث الفقه والعمل المطلق، لأن تطبيق الحديث يخضع لمجموعة من الضوابط والقرائن التي تراعي السياق والمقاصد.

كما أن الحديث ورد بطريق عائشة رضي الله عنها، وأكدت أنها عملت به وأمرت به، بينما خالفها باقي أمهات المؤمنين، كما سيأتي تفصيله لاحقًا.

الخلاف بين العلماء حول العمل بالحديث

رغم صحة سند الحديث، فقد اختلف الفقهاء في العمل به على أقوال، يمكن تلخيصها فيما يلي:

القول الأول: القول بجواز رضاع الكبير على الخصوص

ذهب هذا الرأي إلى أن رضاع الكبير كان حكمًا خاصًا بسالم مولى أبي حذيفة فقط، ولا يتعداه إلى غيره. وهذا مذهب جمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة.

استدلوا على ذلك بما يلي:

• أن ما ورد في الحديث كان لحالة استثنائية، مرتبطة بسالم الذي تربى في بيت أبي حذيفة، وكان يُعامل كابن له.

• أن هذا الرضاع كان لحل مشكلة اجتماعية خاصة بعد تحريم التبنّي، ولا يمكن أن يُتخذ حكمًا عامًا.

• أن أمهات المؤمنين، مثل أم سلمة وحفصة وغيرهن، أنكرن هذا الفعل على عائشة، مما يدل على أنه غير معمول به عندهن.

القول الثاني: القول بجواز رضاع الكبير مطلقًا

ذهب بعض العلماء، ومنهم داود الظاهري وابن حزم، إلى جواز رضاع الكبير مطلقًا إن وُجدت الحاجة لذلك. وقد استدلوا بما يلي:

• صحة الحديث وثبوته في صحيح مسلم.

• قول عائشة رضي الله عنها وعملها به، فقد كانت تأمر بنات أخيها وبنات أخواتها أن يُرضعن من تريد أن تدخل عليها دون حجاب.

• أنه لا يُشترط في الرضاع أن يكون في الصغر فقط، لأن المقصود منه تحقيق الحرمة، وهي تحصل ببلوغ اللبن جوف المرتضع، صغيرًا كان أو كبيرًا.

القول الثالث: القول بعدم جواز رضاع الكبير مطلقًا

ذهب فريق ثالث من العلماء إلى رد الحديث أو تأويله بما لا يفيد العمل به مطلقًا، ومن أبرز هؤلاء: ابن عبد البر، وبعض علماء الظاهر، والشيخ الألباني لاحقًا.

قالوا:

• أن الحديث منسوخ بما ورد في القرآن من أن الرضاع لا يكون إلا في الحولين: ﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين﴾ [البقرة: 233].

• أن مفهوم الرضاع الشرعي الذي يثبت به التحريم هو ما كان في الصغر، لقوله ﷺ: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين».

• أن الفطرة والعقل تأنف من رضاع الرجل الكبير من المرأة الأجنبية، فهو أمر ينافي الذوق العام، ومقاصد الشريعة في حفظ الحياء والكرامة.

تفصيل موقف أمهات المؤمنين

رغم أن الحديث ورد عن عائشة رضي الله عنها، فإن باقي أمهات المؤمنين لم يعملن به، بل أنكرت عليه أم سلمة، كما ورد في روايات متعددة. فقد روي أن عائشة كانت تقول: «إنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة»، وكانت ترى أن الرضاع يثبت حتى في الكبير إذا وُجدت الضرورة لذلك.

أما سائر أمهات المؤمنين، فقالوا:

• لا يكون الرضاع إلا في الصغر.

• أن ما فعلته عائشة رضي الله عنها كان رأيًا منها، ولم يُجمع عليه الصحابة.

• أنهم لم يأخذوا به في الفتوى والعمل.

رأي الإمام النووي في شرح صحيح مسلم

يعد الإمام النووي من أبرز من تناول هذا الحديث بالشرح والتحليل، وفي “شرح صحيح مسلم” قال:

“حديث سالم مولى أبي حذيفة صحيح، وهو محمول على الخصوصية به، كما قال جمهور العلماء… فإن رضاع الكبير لا يُحرّم عند أكثرهم، إلا ما كان في الصغر”.

كما قال:

“ما فعلته عائشة لا يُؤخذ به، لأنه رأي فردي، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والمعتبر هو ما عليه الجمهور”.

موقف المذاهب الأربعة من رضاع الكبير

التحليل المقاصدي للحديث

في ضوء مقاصد الشريعة، فإن الرضاع لم يُشرع فقط كوسيلة تغذية، بل لحماية الأنساب والعلاقات الاجتماعية، وبيان المحرمات. فالأصل أن التحريم بالرضاع يرتبط بحالة الطفولة، لأن الطفل يكون حينها في طور البناء الجسدي والنفسي، فتتكون العلاقة الرضاعية التي تُنشئ حرمة المصاهرة.

أما رضاع الكبير، فإنه يُفقد العلة المقصودة من الرضاع، لأنه لا يربط بين الطفل والمرأة برباط الأمومة الحقيقية، وإنما يكون فعلًا طارئًا لا يحقق المقاصد الشرعية الكاملة.

مسألة التطبيق العملي في الفتوى

في العصر الحديث، لا يُعمل بهذا الحديث على إطلاقه، ولا يُفتي المفتون بجواز إرضاع الكبير إلا في حالات نادرة جدًا وبتقدير الضرورة القصوى، وفق ضوابط شرعية دقيقة.

وقد أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية بعدم جواز رضاع الكبير، وأنه خاص بسالم، ولا يُعمل به في غيره، وهو قول كثير من العلماء المعاصرين مثل الشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين، رحمهم الله.

أثر الحديث على التشريع الحديث والنقاش المجتمعي

أُثيرت جدليات كثيرة في العصر الحديث حول هذا الحديث، لا سيما بعد فتوى مثيرة في أوائل الألفية الثالثة في بعض البلدان العربية بجواز إرضاع الموظفات لزملائهن لمنع الخلوة، وهي فتوى قوبلت برفض واسع من المؤسسات الدينية والعلماء المعاصرين.

وقد أكد العلماء أن مثل هذه الفتاوى تمثل خروجًا عن مقاصد الشريعة وآدابها، وأنها لا تستند إلى إجماع فقهي معتبر، وأن فتح هذا الباب يُعرض الشريعة للتشويه والابتذال في فهم العامة.

خلاصة القول في المسألة

1. حديث رضاع الكبير حديث صحيح ثابت في صحيح مسلم، ولا يمكن الطعن في سنده.

2. جمهور العلماء يرون أنه خاص بحالة سالم مولى أبي حذيفة، ولا يُعمم على غيره.

3. الرضاع الذي يثبت به التحريم هو ما كان في الحولين الأولين، وفقًا للقرآن والسنة والإجماع الفقهي.

4. العمل برضاع الكبير في غير حالة الضرورة مرفوض شرعًا ومقاصديًا، ويُخالف الذوق العام ومقاصد الشريعة في الحياء وصون العلاقات.

5. الخلاف محصور في دائرة ضيقة، ولا يُعمل بالحديث كتشريع عام، وإنما يُنظر إليه كسابقة خاصة لحالة فريدة.

المصادر والمراجع

1. صحيح مسلم، كتاب الرضاع.

2. النووي، شرح صحيح مسلم، دار الفكر.