فن الإنصات وبناء التفاهم

ممكن تسمعوني عشان أسمعكم! — فلسفة الإنصات كمدخل للتفاهم الإنساني

العبارة “ممكن تسمعوني عشان أسمعكم!” قد تبدو بسيطة في ظاهرها، ولكنها تحمل في طياتها عمقًا إنسانيًا وفلسفيًا يعكس جوهر التفاهم والحوار الحقيقي بين الأفراد. الإنصات، لا بمعناه الحسي فحسب، بل كفعلٍ متكاملٍ من الحضور والانتباه والتقدير، يُعد حجر الزاوية في بناء العلاقات البشرية المتينة، وفي تجاوز الاختلافات والتوترات التي قد تنشأ في البيئات الاجتماعية، سواء كانت عائلية، تعليمية، مهنية أو مجتمعية.

أولاً: مفهوم الإنصات في السياق الإنساني

الإنصات يختلف جذريًا عن الاستماع. فالاستماع يعني إدراك الأصوات، أما الإنصات فهو عملية عقلية ونفسية تتضمن توجيه الانتباه الكامل للطرف الآخر، ومحاولة فهم مشاعره وأفكاره دون مقاطعة أو حكم مسبق. الإنصات هو فعل يقترب من التأمل، يمنح الآخر مساحة ليعبر، ويشعر بأنه مسموع ومُقدَّر.

في السياق العربي، يُستخدم الإنصات كمصطلح ديني أيضًا، فالله تعالى يقول: “وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا” [الأعراف: 204]، وهنا يجمع بين الاستماع والإنصات، في إشارة إلى أن الفهم الحقيقي لا يتحقق إلا بتركيز القلب والعقل، وليس بالأذن فقط.

ثانياً: الحاجة الإنسانية العميقة لأن نُسمَع

إن من أعمق الاحتياجات النفسية لدى الإنسان شعوره بأنه مسموع. هذا الشعور يرسّخ الإحساس بالقيمة والوجود. وعندما نقول: “ممكن تسمعوني عشان أسمعكم!” فإننا لا نطلب فقط مساحة للحديث، بل نطالب بالاعتراف بوجودنا، بمشاعرنا، وبأننا لسنا مجرد أصوات عابرة في الضجيج العام.

الطفل يصرخ، ليس لأنه يريد إزعاج والديه، بل لأنه يريد أن يُسمَع. الشاب يحتدّ في النقاش، لأنه يشعر بأن أفكاره مهددة بعدم التقدير. المرأة في بيئة العمل تناضل لتجد مساحة تعبير متساوية. كلهم في الحقيقة يكررون نفس العبارة: “ممكن تسمعوني عشان أسمعكم!”، في صيغة أو بأخرى.

ثالثاً: العوائق النفسية والاجتماعية أمام الإنصات الحقيقي

يواجه الإنصات معوقات كثيرة، أولها التسرع في الحكم، حيث نميل إلى تصنيف الآخرين بحسب قوالب ذهنية مسبقة. ثم تأتي العوائق النفسية مثل التشتت الذهني، الغرور، أو التمركز حول الذات. وفي المجتمعات الحديثة، ساهمت التكنولوجيا والضغوط اليومية في تقليص المساحة المخصصة للحوار الهادئ، مما حول الكثير من المحادثات إلى تبادل أحادي الاتجاه، حيث يتكلم الجميع ولا يصغي أحد.

ومن العوائق الاجتماعية كذلك أن ثقافات معينة تُمجّد الخطابة والجدل وتقلل من شأن من “يصمت ليستمع”، وكأن الصمت ضعفٌ، مع أن الصمت هو القناة التي ينمو فيها الفهم.

رابعاً: التربية على الإنصات في البيئات التعليمية والأسرية

التربية تبدأ من البيت، وأول ما يتعلمه الطفل عن الحوار هو ما يراه ويمارسه في بيئته الأولى. إذا نشأ الطفل في بيئة يُقاطَع فيها باستمرار، أو يُسخر من أفكاره، فسيكبر حاملاً تصورًا مشوّهًا عن قيمة الاستماع. أما إذا تربى في بيئة تحترم مشاعره، تُنصت له، وتمنحه الوقت ليعبر، فإنه سيتعلم تلقائيًا أن يُنصت للآخرين.

في المدارس، تُعتبر مهارة الإنصات جزءًا أساسيًا من التربية المدنية والاجتماعية. إن الطفل الذي لا يُعَلَّم كيف يُنصت، سيكون شابًا يرفض الحوار ويعتمد فقط على رفع الصوت وسيلةً للإقناع.

خامساً: الإنصات في العلاقات الزوجية والعاطفية

تشير الدراسات النفسية إلى أن أغلب المشاكل الزوجية لا تنبع من الخيانة أو المال أو حتى الغيرة، بل من غياب الإنصات الحقيقي. الزوج الذي لا يُنصت لزوجته لن يفهم حاجاتها النفسية، حتى لو وفر لها كل احتياجاتها المادية. والزوجة التي لا تنصت لزوجها ستُسقِط عليه توقعات لا يفهم هو مصدرها، مما يخلق فجوة في التفاهم.

العبارة “ممكن تسمعوني عشان أسمعكم!” في العلاقات العاطفية تعني: اسمعني بصدق، لا لتردّ، بل لتفهمني. عندها فقط يمكن أن نصل إلى مرحلة الاستماع المتبادل القائم على الحب والتقدير.

سادساً: دور وسائل الإعلام في تدمير ثقافة الإنصات

تلعب وسائل الإعلام، لا سيما البرامج الحوارية والسياسية، دورًا خطيرًا في غرس نماذج تواصل عدوانية، تعتمد على المقاطعة، والسخرية، وتضخيم الصوت. هذه النماذج تنعكس بشكل مباشر على سلوك المتابعين، حيث يتعلم الجمهور أن الصراخ يغلب الحجة، وأن الإنصات ضعف، وأن الحديث هو ميدان قتال لا وسيلة فهم.

من المؤسف أن تُقدَّم صورة “المُقاطع الذكي” على أنها نموذج القوة، في حين يُهمَّش النموذج الأهدأ، حتى لو كان أعمق وأصدق. من هنا تأتي الحاجة إلى إعلام يُروّج لفكرة “ممكن تسمعوني عشان أسمعكم!” في سياقها النبيل، لا بوصفها تنازلًا، بل كقوة حقيقية في عالم مشتت.

سابعاً: الإنصات كأداة للعلاج النفسي والاجتماعي

في المجال العلاجي، يُعدّ الإصغاء النشط أحد أقوى أدوات العلاج النفسي. المريض لا يحتاج في البداية إلى دواء أو تحليل، بل يحتاج إلى شخص ينصت إليه دون حكم. يشعر حينها أنه ليس وحيدًا، وأن ألمه مسموع. كثير من الحالات النفسية تبدأ في التحسُّن فقط بمجرد أن يجد المريض من يستمع إليه بصدق واهتمام.

وهذا ما يجعل الإنصات في بعض الأحيان فعلًا إنسانيًا نبيلًا يعادل التبرع بالدم أو إنقاذ حياة. الاستماع للآخر يمكن أن يمنعه من الانهيار، من اتخاذ قرار خطير، أو من الانسحاب من الحياة الاجتماعية.

ثامناً: الإنصات في بيئة العمل والإدارة

من أبرز مؤشرات القيادة الناجحة أن يكون القائد مستمعًا جيدًا. القائد الذي لا يستمع إلى موظفيه يُنتج بيئة عمل سامة، تقوم على الخوف والكتمان والتملق. أما القائد الذي ينصت، ويشجع الآخرين على التعبير، فإنه يبني ثقة داخلية تخلق روح الفريق وتُعزز الإنتاجية.

تشير دراسات الإدارة الحديثة إلى أن المؤسسات التي تتبنى ثقافة “الاستماع المتبادل” تحقق نموًا أسرع، وتتعافى من الأزمات بشكل أذكى، وتحتفظ بكفاءاتها لوقت أطول.

تاسعاً: بين الإنصات والتعاطف – علاقة تكاملية

الإنصات هو الطريق إلى التعاطف، والتعاطف هو عمق الإنصات. لا يمكن أن يتعاطف الإنسان مع من لا يسمعه. وفي نفس الوقت، لا يكتمل الإنصات إلا إذا ارتبط بقدرة على إدراك مشاعر الآخر، حتى لو لم تُنطق بالكلمات. لذلك، حين نقول “ممكن تسمعوني عشان أسمعكم!” فإننا لا نطلب أذنًا فحسب، بل قلبًا وعقلاً مفتوحًا للحوار.

عاشراً: نحو ثقافة إنصات جماعي – كيف نغيّر المجتمع؟

التحول نحو مجتمع يسمع بعضه بعضًا يبدأ من الأفراد. أن تكون شخصًا يُنصت بصدق يعني أنك تسهم في بناء مجتمع أكثر تماسكًا. يبدأ هذا التغيير من الأسرة، ثم المدرسة، ثم يمتد إلى الحي، فالمؤسسات، ثم وسائل الإعلام.

الحملات الثقافية التي تدعو إلى الحوار، والبرامج التعليمية التي تُدرّس مهارات التواصل، كلها أدوات رئيسية في بناء ثقافة جديدة يكون فيها السؤال الأهم: هل سمعت الآخر؟ وهل فهمته؟

جدول: الفرق بين الإنصات والاستماع

في نهاية هذا الطرح، يتبين أن العبارة “ممكن تسمعوني عشان أسمعكم!” هي دعوة جوهرية لإعادة تعريف طريقة تواصلنا كبشر. هي صرخة ناعمة ولكنها قوية، تقول: قبل أن تتحدث، استمع؛ وقبل أن تحكم، افهم؛ وقبل أن ترفض، تعاطف. هذه ليست فقط قاعدة في التواصل، بل أساس في الإنسانية.

المراجع:

1. Carl Rogers, On Becoming a Person, Houghton Mifflin, 1961.

2. Julian Treasure, How to be Heard, Mango Publishing, 2017.