أمين الجميل: سيرة سياسية لرئيس لبناني وسط العواصف

مقدمة

يُعد أمين الجميل أحد أبرز الشخصيات السياسية اللبنانية التي تركت بصمة واضحة في تاريخ الجمهورية اللبنانية خلال فترة شديدة التعقيد من الحرب الأهلية والانقسامات الإقليمية والدولية. تولّى الجميل رئاسة الجمهورية اللبنانية في مرحلة مفصلية (1982–1988)، بعد اغتيال شقيقه الرئيس المنتخب بشير الجميل، وقاد البلاد في واحدة من أكثر الفترات اضطراباً وتعقيداً في تاريخها المعاصر. مثّلت رئاسته تحدياً هائلاً بسبب الضغوط الإقليمية والدولية وتداخل الساحة اللبنانية مع الصراعات الإقليمية الكبرى، خصوصاً التدخل السوري والإسرائيلي في الشأن اللبناني.

النشأة والخلفية العائلية

ولد أمين الجميل في بلدة بكفيا اللبنانية في 22 يناير 1942، لأسرة مارونية عريقة في السياسة اللبنانية. والده هو بيار الجميل، مؤسس حزب الكتائب اللبنانية، الذي كان من أبرز الشخصيات السياسية في لبنان طوال النصف الأول من القرن العشرين. نشأ أمين في بيئة سياسية وطنية قومية، ودرس الحقوق في جامعة القديس يوسف في بيروت، وانخرط منذ شبابه في العمل السياسي والحزبي. قبل تولّيه الرئاسة، كان يشغل مناصب قيادية داخل حزب الكتائب، وكان نائبًا في البرلمان اللبناني منذ عام 1970.

الطريق إلى الرئاسة

جاء وصول أمين الجميل إلى رئاسة الجمهورية في ظرف بالغ الحساسية. ففي عام 1982، وبعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، انتخب بشير الجميل، شقيق أمين، رئيساً للجمهورية بدعم أميركي وإسرائيلي واضح، لكن عملية اغتياله بعد أسابيع قليلة من انتخابه فتحت الباب أمام أزمة فراغ دستوري وخوف من انهيار المؤسسات. وجدت القوى السياسية، مدفوعة بالدعم الدولي، خصوصاً الأميركي، حلاً سريعًا بترشيح أمين الجميل، الذي كان أقل حدة في خطابه وأكثر انفتاحًا على الأطراف المختلفة، فانتُخب رئيسًا للجمهورية في 21 سبتمبر 1982.

التحديات السياسية في بداية العهد

بدأ عهد أمين الجميل في ظل أوضاع أمنية وسياسية منهارة: الاحتلال الإسرائيلي للجنوب والضواحي الجنوبية لبيروت، السيطرة السورية على مناطق واسعة من لبنان، ووجود ميليشيات طائفية مسلحة تدير مناطق نفوذها بقوة السلاح. كما كان هناك حضور عسكري أجنبي ثلاثي: أميركي وفرنسي وإيطالي ضمن قوات حفظ السلام متعددة الجنسيات، بالإضافة إلى تدخلات إقليمية عنيفة من جانب إسرائيل وسوريا وإيران.

واجه الجميل خلال عهده واحدة من أكبر الأزمات الدستورية والأمنية، فقد كانت الدولة اللبنانية في حالة تفكك، وكان ولاء العديد من القوى السياسية والميليشيات الطائفية موزعاً بين الخارج، ففشلت حكومته في فرض سيادة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية.

اتفاق 17 أيار 1983: محاولة لإعادة التوازن

من أبرز محطات عهد الجميل توقيعه اتفاق 17 أيار مع إسرائيل، وهو اتفاق تم التوصل إليه بوساطة أميركية، وكان يهدف إلى إنهاء حالة الحرب بين البلدين وانسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان مقابل ترتيبات أمنية مشتركة. ورغم موافقة الحكومة اللبنانية على الاتفاق، إلا أن المعارضة القوية من جانب سوريا وحلفائها في الداخل اللبناني، خصوصًا الميليشيات الشيعية واليسارية، جعلت من تنفيذ الاتفاق أمراً مستحيلاً، مما أدى في نهاية المطاف إلى إسقاطه بعد عام.

كان فشل اتفاق 17 أيار نقطة تحول خطيرة في عهد أمين الجميل، إذ أظهر محدودية تأثيره على القوى الفاعلة داخل لبنان، وعجزه عن تحقيق توازن بين القوى الإقليمية، لا سيما أمام النفوذ السوري المتصاعد.

انهيار المؤسسات وتزايد نفوذ الميليشيات

مع تقدم سنوات الحرب، ازداد تفكك الدولة اللبنانية، وتحوّلت الميليشيات إلى قوى أمر واقع. لم تكن لدى الجميل سيطرة حقيقية على الجيش اللبناني الذي تعرض لانقسامات على أسس طائفية. كما دخلت البلاد في دوامة من الاشتباكات المتواصلة، خصوصًا في بيروت الشرقية والغربية، وحدثت اشتباكات متكررة بين الجيش اللبناني وميليشيات المعارضة، وبرزت تحديات داخل معسكره السياسي، مما أدى إلى تآكل القاعدة الشعبية لحكمه.

في هذه الأثناء، لعبت سوريا دوراً محورياً في تحريك الساحة السياسية والعسكرية، ودعمت بوضوح القوى المناوئة للجميل، خاصة حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي. كما ساعد انهيار المبادرة الأميركية بعد تفجير السفارتين الأميركية والفرنسية في بيروت عام 1983، وتفجير مقر المارينز في أكتوبر 1983، في انسحاب القوات الغربية، مما ترك الجميل معزولًا دولياً وإقليمياً.

الاقتصاد والانهيار المالي

لم يقتصر التدهور في عهد الجميل على السياسة والأمن، بل طال الاقتصاد اللبناني بشكل كارثي. شهدت الليرة اللبنانية انهيارًا غير مسبوق، وقفزت معدلات التضخم بشكل حاد، وازدادت معدلات الفقر والبطالة، خصوصًا في المناطق المتضررة من الحرب. كما كانت البنى التحتية مدمرة، والمرافئ خاضعة لسيطرة الميليشيات، مما زاد من صعوبة عمل الحكومة المركزية.

الجميل حاول عبر تعيين حكومة تكنوقراط، وترؤس عدد من التكنوقراطيين الحقائب الوزارية الأساسية، إنقاذ الوضع الاقتصادي، إلا أن هذه المحاولات اصطدمت بتعقيدات أمنية وسياسية جعلت أي إصلاح اقتصادي حقيقي مستحيلاً.

نهاية العهد وأزمة الفراغ الرئاسي

مع اقتراب نهاية ولايته، سعى أمين الجميل إلى التوصل إلى تسوية داخلية عبر عقد مؤتمر مصالحة وطنية، لكنه فشل في الوصول إلى اتفاق مع جميع الأطراف اللبنانية المتنازعة. وبعد عجز البرلمان اللبناني عن انتخاب رئيس جديد بسبب الانقسام الحاد بين الكتل السياسية، قرر الجميل في الساعات الأخيرة من عهده تعيين حكومة عسكرية برئاسة قائد الجيش العماد ميشال عون، وهو القرار الذي فاقم الانقسام، حيث رفضته القوى الموالية لسوريا وشكلت حكومة مدنية موازية برئاسة سليم الحص.

انتهت ولاية الجميل في 23 سبتمبر 1988، وترك خلفه دولة منهارة ومقسمة وغياباً كلياً للمؤسسات، مما مهّد الطريق أمام المزيد من الفوضى، إلى أن انتهت الحرب الأهلية عام 1990 بعد اتفاق الطائف.

النشاط السياسي بعد الرئاسة

رغم ابتعاده النسبي عن الساحة السياسية خلال تسعينات القرن الماضي بسبب النفوذ السوري الكامل على القرار اللبناني، بقي أمين الجميل حاضراً كرئيس سابق ومرجعية سياسية. عاد إلى الحياة السياسية بعد انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005، وشارك في تحالف 14 آذار المناهض للوجود السوري. كما ترشح في الانتخابات الفرعية عام 2007 بعد اغتيال نجله بيار الجميل، لكنه خسر بفارق ضئيل أمام مرشح حزب الله.

وفي عام 2014، ترشح مجددًا للانتخابات الرئاسية بدعم من قوى 14 آذار، لكنه لم ينجح في تأمين التوافق اللازم في مجلس النواب اللبناني للفوز بالرئاسة.

الفكر السياسي والنهج

تميز أمين الجميل بخطاب معتدل نسبيًا مقارنة ببعض القيادات المسيحية الأخرى في زمن الحرب، وقد حاول أن يكون صوتًا للشرعية والدولة، رغم أن بعض قراراته أثارت جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية اللبنانية. دافع في أكثر من مناسبة عن مبدأ السيادة اللبنانية، لكنه واجه صعوبات كبيرة في تطبيق هذا المبدأ على أرض الواقع، بسبب تداخل العوامل الإقليمية والدولية والصراع الأهلي العنيف.

كما كتب عددًا من المقالات السياسية، وألقى محاضرات في جامعات ومؤسسات دولية، مدافعًا عن فكرة الدولة المدنية، وأهمية الحياد الإيجابي للبنان عن صراعات الشرق الأوسط.

الإرث والتقييم

يُعد تقييم عهد أمين الجميل مسألة معقدة في التاريخ اللبناني. فقد واجه ظروفاً استثنائية، وحاول الحفاظ على بقايا الدولة في زمن الانهيار، إلا أن سياساته قوبلت بانتقادات واسعة بسبب عجزه عن إدارة التوازنات الداخلية والخارجية، وفشله في حماية وحدة الجيش والدولة. يُنظر إليه أحياناً كزعيم حاول فعل المستحيل في وقت كان فيه لبنان ساحة مفتوحة لصراعات الآخرين، وأحياناً كمن ساهم في تعميق الانقسام الطائفي والسياسي من خلال قراراته غير التوافقية.

لكن من المؤكد أن عهده كان مرحلة انتقالية فارقة بين لبنان ما قبل الحرب ولبنان ما بعد الطائف، وأن شخصيته السياسية شكّلت جزءاً من تاريخ المارونية السياسية في البلاد، والتي شهدت تراجعاً كبيراً بعد الحرب، لصالح تحالفات طائفية جديدة.

جدول زمني لأهم أحداث عهد أمين الجميل

الخاتمة

شكّل أمين الجميل أحد الوجوه السياسية اللبنانية التي حكمت في ظروف أقرب إلى المستحيلة. ورغم كل الانتقادات والاختلافات حول سياساته وقراراته، يبقى الرجل جزءًا من تاريخ لبنان المعاصر، وزمن المآسي الوطنية التي عصفت بالدولة اللبنانية. عهده يعكس بجلاء تعقيدات النظام الطائفي، وتشابك القوى الخارجية في القرار الوطني اللبناني، ويبرز أهمية تعزيز الدولة كمفهوم ومؤسسات للحد من الانهيارات المتكررة التي عاشها لبنان.

المراجع

• Traboulsi, Fawwaz. A History of Modern Lebanon. Pluto Press, 2007.

• Makdisi, Samir. The Lessons of Lebanon: The Economics of War and Development. I.B.Tauris, 2004.