الإسلام وحُب الرجل: دراسة متعمقة في فهم النصوص والعدالة بين الجنسين

تُثار بين الحين والآخر ادعاءات تُروّج لفكرة أن الإسلام قد “حابى الرجل” على حساب المرأة، مُتهمة إياه بالتمييز الذكوري ومجحفًا في حقوق المرأة، ما يُثير جدلاً كبيرًا في الأوساط الفكرية والاجتماعية، خاصة في ظل محاولات قراءة النصوص الشرعية بمعزل عن سياقها التاريخي والاجتماعي والديني. في هذا المقال، يُسلَّط الضوء على هذه القضية من منظور علمي وتاريخي تشريعي عميق، لفهم حقيقة العلاقة بين الجنسين في الإسلام، وفهم ما إذا كان الإسلام قد فعلاً ميّز الرجل على المرأة بصورة تفضيلية مطلقة، أم أن الأمر أعقد من ذلك ويتطلب فهماً متزنًا للنصوص والمقاصد.

أولًا: التمييز بين “التفضيل” و”التكليف”

عند مناقشة مفهوم “التمييز” أو “المحاباة” لا بد من التفريق بين التمييز التشريعي القائم على التكليف والتخصص، وبين التمييز التفضيلي القائم على الظلم أو التحيز. الإسلام، كمنظومة تشريعية، لا ينطلق من قاعدة التفضيل المطلق بناءً على النوع، وإنما من مبدأ الوظائف الطبيعية والاجتماعية لكل من الرجل والمرأة، ومن ثم توزع المسؤوليات بما يتناسب مع التكوين الجسدي والنفسي والاجتماعي لكليهما.

قال الله تعالى:

“وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ” [آل عمران: 36]،

في هذا النص إقرار بوجود اختلاف، لا من باب الأفضلية، وإنما من باب الاختلاف في الخِلقة والوظيفة والتكليف.

ثانيًا: الفروق التشريعية ليست دائمًا في مصلحة الرجل

عند فحص التشريعات الإسلامية المتعلقة بالجنسين، نجد أن كثيرًا من الأحكام التي يُظن أنها في صالح الرجل، هي في الحقيقة قائمة على تكليفه بمسؤوليات إضافية، وليس بمنحه امتيازات مجانية. على سبيل المثال:

إذن، لا يُمكن القول إن “التمييز” أو “التفاضل” قائم لصالح الرجل بصورة مطلقة، بل هو تفاضل في المهام، وتكامل في الأدوار، وليس تمييزًا من حيث القيمة الإنسانية أو الكرامة.

ثالثًا: القوامة ليست سلطة استبدادية

من أكثر الأحكام التي يُساء فهمها، مسألة قوامة الرجل على المرأة، والتي وردت في قوله تعالى:

“الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ” [النساء: 34]

وقد فُسّرت هذه الآية أحيانًا على أنها دليل على تفضيل الرجل المطلق، والحقيقة أن القوامة هنا هي تكليف بالتسيير والرعاية، لا سلطة تحكم واستعلاء. فالقوامة مرتبطة بسببين:

1. الإنفاق: “بما أنفقوا من أموالهم”

2. القدرة على الحماية والرعاية بحكم التكوين الجسدي والنفسي

ولا تعني القوامة مطلقًا سحب الكرامة أو الاستقلال عن المرأة، بدليل أن المرأة لها شخصيتها القانونية الكاملة، وتستطيع أن تملك، وتبيع، وتشهد، وتطلب الطلاق، وتدير أعمالها، بل وتتولى مهام اجتماعية كبرى في حالات كثيرة.

رابعًا: الشهادة والميراث في السياق الصحيح

كثير من الانتقادات توجه إلى الإسلام بسبب ما يُفهم من أنه قلل من شأن المرأة في الشهادة والميراث. غير أن هذا الفهم سطحـي وغير دقيق.

الشهادة:

في قوله تعالى:

“فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ” [البقرة: 282]

هذه الآية تتحدث عن الشهادة في المعاملات المالية تحديدًا، وهو مجال كان فيه النشاط الرجالي أكثر شيوعًا في ذلك السياق التاريخي، وليس في كل أنواع الشهادات. فهناك حالات أخرى تكون فيها شهادة المرأة وحدها كافية، مثل شهادة الولادة، والرضاعة، والعِدة.

الميراث:

الإسلام هو النظام الديني الوحيد الذي أعطى المرأة حقًا ثابتًا في الإرث، بعدما كانت تُحرَم منه تمامًا في الجاهلية. أما الحالات التي يرث فيها الرجل ضعف المرأة فهي حالات خاصة، وغالبًا ما يكون الرجل فيها مسؤولًا ماليًا عن المرأة التي ورث معها، في حين أن مال المرأة في الإسلام لا تُلزَم بإنفاقه على غيرها.

خامسًا: المرأة المسلمة في عهد النبوة

لفهم حقيقة وضع المرأة في الإسلام، لا بد من استقراء السيرة النبوية، حيث نجد نماذج مشرقة توضح مكانة المرأة ومشاركتها الفاعلة في الحياة العامة، دون أن يمنعها الشرع من ذلك:

• خديجة بنت خويلد: تاجرة ومستثمرة بارزة، كانت أول من آمن برسالة النبي ﷺ.

• عائشة بنت أبي بكر: كانت مرجعية علمية كبرى في الفقه والحديث.

• الشفاء بنت عبد الله: تولت الحسبة في الأسواق (ما يُشبه الوزارة أو الرقابة).

• نسيبة بنت كعب: شاركت في الغزوات دفاعًا عن النبي ﷺ.

هذه النماذج تدحض الادعاء بأن الإسلام حصر المرأة في البيت ومنعها من المساهمة في الحياة العامة.

سادسًا: الإسلام ومكانة المرأة في العبادة والكرامة

في الأصول الإيمانية، لم يُفرّق الإسلام بين الرجل والمرأة، بل جعلهما متساويين تمامًا في التكاليف والمقاصد، حيث قال تعالى:

“إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ… أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا” [الأحزاب: 35]

هذه الآية من أوضح الأدلة على أن الكرامة والتكليف والمصير الأخروي لا يفرّق فيه الإسلام بين الجنسين، بل جعل معيار التفاضل الوحيد هو التقوى والعمل الصالح، وليس النوع.

سابعًا: الفرق بين النص الديني والتطبيق الاجتماعي

كثير من الذين يتهمون الإسلام بمحاباة الرجل، يخلطون بين النصوص الدينية وبين التقاليد الاجتماعية التي سادت في بعض المجتمعات الإسلامية نتيجة لتأثيرات ثقافية وقبلية لا علاقة لها بروح الإسلام.

التمييز الظالم الذي وقع على المرأة في بعض مراحل التاريخ الإسلامي لم يكن مصدره الدين، وإنما فهم مشوه أو تأويل قاصر أو تقاليد ذكورية موروثة تم تسويقها باسم الدين. من هنا جاءت أهمية العودة إلى النصوص الأصلية في الكتاب والسنة، مع فهمها في سياقها المقاصدي الشامل.

ثامنًا: تكامل الأدوار لا صراعها

الإسلام لا ينظر إلى العلاقة بين الرجل والمرأة على أنها علاقة تنافس أو صراع على الحقوق، بل يُؤسس لها على مبدأ التكامل والتعاون من أجل إقامة حياة مستقرة وعادلة. كما في قوله تعالى:

“وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً” [الروم: 21]

هذا النص يعبر عن البُعد العاطفي والنفسي والإنساني في العلاقة، بعيدًا عن صراع المصالح والهيمنة، فالرجل والمرأة في الإسلام ليسا خصمين، بل شريكين في بناء الأسرة والمجتمع.

خاتمة تحليلية

فكرة أن الإسلام “حابى الرجل” هي اختزال مخل لمجموعة من الأحكام التي يجب أن تُقرأ ضمن سياقها الكامل والمترابط. الإسلام لم يُفضّل الرجل على المرأة مطلقًا في الكرامة أو الحقوق، وإنما قسم المهام والأدوار وفقًا للتكوين والوظائف، ومنح كل طرف ما يلزمه لتحقيق العدالة، لا المساواة الرقمية. فلو كانت العدالة تُقاس بالمساواة الحسابية فقط، لضاعت الخصوصيات البشرية والوظيفية.

ما يتطلبه الأمر اليوم هو إعادة قراءة النصوص بعيون مقاصدية، عقلانية، وإنسانية، وفصل النص الشرعي عن الممارسات المجتمعية المشوهة التي نسبت إلى الدين ما ليس فيه. المرأة في الإسلام مكرمة، محترمة، مستقلة، فاعلة، ومساوية للرجل في القيمة والمصير.

المصادر والمراجع

1. ابن عاشور، التحرير والتنوير، تفسير آية القوامة.

2. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دار الفكر، دمشق.