البحر الميت يصارع من أجل الحياة

يُعتبر البحر الميت من أكثر الظواهر الطبيعية تميزًا في العالم، فهو بحر داخلي يقع في أخفض نقطة على سطح الأرض، حيث يبلغ انخفاضه حوالي 430 مترًا تحت مستوى سطح البحر. يمتد بين الأردن من الشرق وفلسطين من الغرب، ويُعرف بمياهه المالحة بشكل استثنائي وتركيزه العالي من المعادن، مما يجعله بيئة فريدة من نوعها في العالم. إلا أن هذا البحر التاريخي والصحراوي العجيب يواجه في العقود الأخيرة تحديات بيئية كبيرة تهدد وجوده، فتُشير الدراسات إلى أن البحر الميت يصارع من أجل البقاء وسط تغيرات بيئية مستمرة وانحسار مستمر في مساحته وحجمه.

الموقع الجغرافي والخصائص الطبيعية للبحر الميت

البحر الميت هو بحيرة ملحية كبيرة، لا يتصل بالمحيطات، بل يتغذى بشكل رئيسي من نهر الأردن والمياه الجوفية الجارية في المنطقة المحيطة. يُعتبر البحر الميت أدنى نقطة على سطح الأرض، إذ يقع في منخفض على طول صدع البحر الميت، وهو جزء من الصدع الكبير الذي يمتد من البحر الأحمر وحتى تركيا. تتميز مياهه بتركيز عالي من الأملاح المعدنية، تصل نسبة الملوحة فيه إلى حوالي 34%، أي ما يقارب عشرة أضعاف ملوحة مياه المحيطات، الأمر الذي يجعل السباحة فيه تجربة فريدة، حيث تعلو الأجسام بسهولة على سطح المياه.

تتضمن مياه البحر الميت معادن مثل المغنيسيوم، الكالسيوم، البوتاسيوم، والبروم، التي تمنحه خواص علاجية وصحية معروفة، ويُستخدم طين البحر الميت في منتجات التجميل والعلاج الطبيعي.

أسباب انحسار البحر الميت

يواجه البحر الميت انخفاضًا مستمرًا في منسوب مياهه منذ نحو 50 عامًا، إذ تقلصت مساحته بنسبة تزيد على 30%، ويتناقص حجم مياهه بوتيرة تقدر بحوالي متر إلى مترين سنويًا. يعود هذا الانحسار لعدة أسباب بيئية وبشرية:

• تحويل مياه نهر الأردن: يعد نهر الأردن المصدر الأساسي للبحر الميت، لكن منذ منتصف القرن العشرين تم تحويل مساحات واسعة من مياه النهر لري الأراضي الزراعية وللاستخدامات السكنية والصناعية في الأردن وإسرائيل وسوريا، ما أدى إلى تقليل كمية المياه الواصلة إلى البحر.

• الاستخدام المفرط للمياه الجوفية: تُستخدم المياه الجوفية في المنطقة المحيطة لتلبية حاجات السكان والزراعة، مما يقلل من تدفق المياه الطبيعية إلى البحر.

• التبخر الطبيعي المكثف: بسبب الموقع الصحراوي وارتفاع درجات الحرارة، يتبخر كميات كبيرة من مياه البحر الميت سنويًا، وهو أمر طبيعي، لكن انخفاض تدفق المياه الفعلي يجعل هذا التبخر يسبب نقصًا صافيًا في حجم المياه.

• التغيرات المناخية: ساهمت التغيرات المناخية العالمية في زيادة درجات الحرارة وتقليل هطول الأمطار في المنطقة، مما أثر سلبًا على مصادر المياه المغذية للبحر.

تأثير الانحسار على البيئة والاقتصاد

يُعد انحسار البحر الميت مشكلة بيئية حادة تحمل في طياتها تهديدات كثيرة للنظام البيئي والمنطقة المحيطة. أولى هذه التأثيرات هو ظهور ظاهرة الفجوات الأرضية (Sinkholes)، وهي حفر كبيرة تظهر فجأة في الأرض حول شواطئ البحر الميت نتيجة لتآكل الطبقات الجوفية تحت الأرض بفعل تدفق المياه المالحة التي تحل محل المياه العذبة الجوفية التي تجف. هذه الفجوات تسبب أضرارًا كبيرة للبنية التحتية والمرافق الزراعية والسكنية.

كما تؤثر ظاهرة الانحسار على اقتصاد المنطقة، خاصة في مجالات السياحة والعلاج الطبيعي، حيث تعتمد دول المنطقة على البحر الميت كمصدر هام لجذب السياح الباحثين عن الاستشفاء والعلاج بالمعادن والطين. تقلصت مساحة البحر الميت وتغيرت بيئته، مما أدى إلى تراجع في عدد الزائرين وارتفاع تكاليف صيانة المرافق السياحية.

الجهود المبذولة لإنقاذ البحر الميت

لمواجهة هذه الأزمة، أطلقت دول المنطقة – الأردن وفلسطين وإسرائيل – عدة مبادرات ومشاريع تهدف إلى إنقاذ البحر الميت وإيقاف تراجعه. من أبرز هذه المشاريع مشروع قناة البحر الأحمر-البحر الميت، وهو مشروع طموح يهدف إلى ضخ مياه من البحر الأحمر إلى البحر الميت لتعويض النقص في المياه وتحسين مستواه. يتضمن المشروع أيضًا محطات لتحلية المياه وتوليد الكهرباء، ما يجعله مشروعًا متعدد الأهداف.

كما تعمل الحكومات على تحسين إدارة الموارد المائية في حوض نهر الأردن من خلال تطبيق تقنيات الري الحديث وتخفيف الاستهلاك غير المستدام للمياه، إلى جانب دعم برامج توعية عامة بأهمية المحافظة على البحر الميت.

التحديات التي تواجه الحلول المقترحة

رغم وجود جهود ومبادرات واضحة، إلا أن إنقاذ البحر الميت يواجه تحديات كثيرة. مشروع قناة البحر الأحمر-البحر الميت يواجه تحديات فنية وبيئية كبيرة، منها إمكانية تأثيره على جودة مياه البحر الميت، وخطورة انتقال الكائنات البحرية غير المرغوب فيها، فضلاً عن التكلفة العالية للمشروع والحاجة إلى تعاون سياسي مستمر بين الدول المعنية.

أما جهود ترشيد استخدام المياه، فهي محدودة في فعاليتها بسبب النمو السكاني المتسارع وتوسع الأنشطة الزراعية والصناعية في المنطقة، مما يضغط على مصادر المياه المتاحة.

أهمية البحر الميت عالمياً وإقليمياً

يمثل البحر الميت موروثًا طبيعيًا وثقافيًا هامًا، إذ أن له أهمية كبيرة ليست فقط في المنطقة، بل على المستوى الدولي. يُعد البحر الميت جزءًا من التاريخ القديم، فقد ورد ذكره في نصوص دينية وأدبية منذ آلاف السنين، ويجذب اهتمام الباحثين في مجالات الجيولوجيا والبيئة والتاريخ.

إضافة إلى ذلك، فإنه يوفر موطنًا فريدًا للعديد من الكائنات الحية التي تكيفت مع بيئته المالحة، وهو ما يجعله مختبرًا طبيعيًا لفهم تأثيرات البيئات القاسية على الحياة.

المستقبل المحتمل للبحر الميت

يبقى مستقبل البحر الميت مرتبطًا بشكل وثيق بمدى قدرة الدول والمجتمعات المحلية على اتخاذ خطوات فعالة ومستدامة للحفاظ عليه. تشير التوقعات إلى أن استمرار الوضع الحالي من الاستنزاف سيؤدي إلى تقلص أكبر في مساحته، وزيادة حدة ظاهرة الفجوات الأرضية، فضلاً عن تدهور الأوضاع البيئية والاجتماعية والاقتصادية المحيطة به.

لكن في حال تم تنفيذ مشاريع إعادة المياه بشكل مدروس، وتبني سياسات بيئية صارمة، من الممكن أن يشهد البحر الميت استقرارًا أو حتى تحسنًا في مستواه خلال العقود القادمة. يتطلب ذلك تنسيقًا عاليًا بين الدول، والتزامًا طويل الأمد بالمحافظة على الموارد المائية والإجراءات البيئية.

جدول يوضح أهم أسباب انحسار البحر الميت وتأثيراتها

يُعد البحر الميت حالة فريدة في عالم الطبيعة، فهو يختبر اليوم معركة صعبة بين قوى الطبيعة والأنشطة البشرية، ومحاولات الإنسان لإنقاذه تمثل تحديًا بيئيًا وتقنيًا كبيرًا. إن المحافظة على هذا البحر تتطلب جهودًا متواصلة وتعاونًا دوليًا حقيقيًا لضمان بقاء هذا المورد الطبيعي التاريخي والبيئي الثمين للأجيال القادمة.

المصادر والمراجع

• تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة، “الحالة البيئية للبحر الميت”، 2022.

• المركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة (أكساد)، “التحولات البيئية في منطقة البحر الميت”، 2021.