تأثير “أكراسيا” (Akrasia): لماذا لا نتابع ما بدأنا به؟
يعد تأثير “أكراسيا” أحد أكثر الظواهر النفسية التي تثير فضول العلماء والباحثين في مجال علم النفس والسلوك البشري. على الرغم من أن معظم الناس يعتقدون أن النجاح في تحقيق الأهداف أو إتمام المهام يتطلب إصرارًا مستمرًا وتخطيطًا جيدًا، فإن الواقع غالبًا ما يكون مختلفًا. فما إن يبدأ الإنسان في تحقيق هدف ما، حتى يجد نفسه، في العديد من الأحيان، غير قادر على الاستمرار أو متابعة ما بدأه. يحدث هذا بغض النظر عن حجم الحافز أو مدى قوة النية المبدئية. هذه الظاهرة، المعروفة باسم “أكراسيا” (Akrasia)، تشكل تحديًا كبيرًا لكل من يواجهها.
ما هي أكراسيا؟
أكراسيا هي مصطلح يوناني قديم يعود إلى الفيلسوف سقراط، الذي استخدمه لوصف حالة العجز عن اتباع النوايا الطيبة أو القرارات العقلانية. ببساطة، أكراسيا تعني “القيام بما لا نرغب فيه” أو “الفشل في فعل ما نعلم أنه الأفضل لنا”. هذه الظاهرة لا تقتصر على فشل الناس في إتمام المهام اليومية فحسب، بل تشمل أيضًا عجزهم عن الالتزام بتغيير السلوكيات التي يعتقدون أنها ستؤدي إلى تحسين حياتهم على المدى الطويل.
على سبيل المثال، يمكن أن يكون الشخص قد قرر البدء في ممارسة الرياضة بانتظام لتحسين صحته، لكنه بعد عدة أيام من التدريب، يجد نفسه يتجنب الذهاب إلى النادي الرياضي رغم علمه بأن ذلك سيعود عليه بفوائد كبيرة. هذه الظاهرة تحدث في العديد من الحالات اليومية مثل تأجيل الأعمال الدراسية، عدم الالتزام بنظام غذائي صحي، أو حتى الإهمال في تنفيذ الأعمال المهنية رغم معرفة الشخص بأهميتها.
لماذا يحدث تأثير أكراسيا؟
-
التأجيل المؤقت (Procrastination):
يعد التأجيل أحد أبرز أعراض أكراسيا. يرتبط التأجيل برغبة فورية في إشباع احتياجات معينة على حساب المدى الطويل. إذ يتجاهل الشخص الفوائد المستقبلية التي قد يحصل عليها من العمل أو المجهود الآن لصالح الراحة أو الأنشطة التي توفر له إشباعًا سريعًا. على الرغم من أن الشخص يعلم أن تأجيل المهمة قد يؤدي إلى نتائج سلبية، إلا أن الرغبة في الراحة الفورية تكون أقوى. -
تفاوت النظرة بين الآن والمستقبل (Present Bias):
يشرح العلماء هذا التفاوت عن طريق ما يعرف بـ “تحيز الحاضر” (Present Bias). هذه الظاهرة تشير إلى ميل الإنسان المفرط إلى منح الأولوية لمتعة أو راحة اللحظة الحالية على حساب الفوائد المستقبلية. في بعض الأحيان، يمكن أن يواجه الشخص صعوبة في التركيز على الفائدة الطويلة الأجل نتيجة لنقص القدرة على تصور المستقبل وتأثيره على القرار الحالي. -
التوتر النفسي والقلق:
يعتبر التوتر النفسي أحد الأسباب الرئيسية لتأثير أكراسيا. عندما يشعر الشخص بالقلق أو التوتر، غالبًا ما يلجأ إلى الهروب من المهام الصعبة أو غير المريحة، حتى وإن كانت هذه المهام مهمة بالنسبة له. يساعد تجنب المهمات المزعجة على تخفيف الضغط اللحظي، ولكنه في النهاية يؤدي إلى تراكم المهام وزيادة مستويات القلق. -
الافتقار إلى التحفيز الداخلي:
التحفيز الداخلي هو الدافع الذي ينبع من داخل الشخص لتحقيق أهدافه. عندما يفتقر الشخص إلى هذا التحفيز الداخلي، يصبح من الصعب عليه متابعة ما بدأه. على الرغم من وجود الحوافز الخارجية مثل المكافآت أو التقدير الاجتماعي، فإن الشخص الذي لا يشعر بالشغف أو الرغبة الحقيقية في إتمام المهمة قد يصاب بالكسل أو التردد. -
التشتت وقلة التركيز:
في عصر التكنولوجيا الحديثة، أصبح التشتيت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. سواء كانت التنبيهات على الهاتف المحمول، أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو غيرها من الملهيات، فإن القدرة على التركيز على المهمة المطلوبة تتضاءل بشكل كبير. هذا التشتت يؤدي إلى صعوبة في متابعة العمل الذي بدأناه.
التغلب على تأثير أكراسيا
التعامل مع تأثير أكراسيا ليس أمرًا سهلًا، ولكنه ممكن. يتطلب الأمر مزيجًا من الوعي النفسي، التنظيم الجيد، واستراتيجيات قوية للتحفيز الذاتي. هناك عدة طرق يمكن أن تساعد الشخص على مقاومة هذا التأثير ومتابعة ما بدأه، ومنها:
-
تقسيم الأهداف إلى مهام صغيرة:
أحد الأساليب الفعّالة هو تقسيم الأهداف الكبيرة إلى مهام صغيرة قابلة للتحقيق. عندما يكون الهدف ضخمًا، يشعر الشخص أحيانًا بالإرهاق مما يثبط عزيمته. لكن عندما يتم تقسيمه إلى خطوات صغيرة يمكن إنجازها، يصبح الشخص أكثر قدرة على الاستمرار. -
استخدام تقنية “مؤقت بومودورو”:
يعتمد هذا الأسلوب على تخصيص فترات زمنية قصيرة للعمل المتواصل (عادة 25 دقيقة) تليها فترات قصيرة من الراحة (5 دقائق). تساعد هذه التقنية على تحسين التركيز وتقليل الشعور بالملل أو الإرهاق، مما يسهل متابعة المهام. -
التركيز على العادات بدلاً من الأهداف:
بدلاً من تحديد أهداف بعيدة المدى، يمكن التركيز على بناء عادات يومية صغيرة ومستدامة. فمثلاً، بدلاً من قول “سأمارس الرياضة لمدة ساعة كل يوم”، يمكن القول “سأمارس الرياضة لمدة 10 دقائق كل صباح”. هذه العادة الصغيرة قد تتحول تدريجيًا إلى جزء من روتين الشخص اليومي. -
المكافآت الذاتية:
تحفيز الذات يمكن أن يكون أداة قوية للتغلب على أكراسيا. يمكن تحديد مكافآت شخصية للشخص عند إتمام المهام أو تحقيق الأهداف الصغيرة. المكافآت يمكن أن تكون أي شيء من الراحة، إلى مشاهدة فيلم مفضل، أو تناول وجبة لذيذة. -
الإدراك الكامل للمشاعر والنية:
يجب على الشخص أن يكون مدركًا لمشاعره عندما يقرر تأجيل مهمة أو الهروب منها. الوعي الكامل بالمشاعر الداخلية، مثل القلق أو التردد، يساعد في التعامل معها بشكل أفضل. كذلك، ينبغي أن يكون لدى الشخص نية قوية ومترسخة في قلبه لتحقيق أهدافه، وأن يستشعر أهمية ما يفعله على المدى البعيد. -
إزالة الملهيات:
في ظل وجود وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من الملهيات الرقمية، يجب على الشخص إزالة هذه العوامل المشتتة أثناء العمل. تخصيص بيئة خالية من الإغراءات الرقمية يمكن أن يساعد بشكل كبير في تحسين التركيز.
خاتمة
تأثير أكراسيا هو ظاهرة نفسية معقدة تؤثر على قدرة الإنسان على متابعة ما بدأه، مما يؤدي إلى الإحساس بالعجز والإحباط. لكن بفهم الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة واتباع استراتيجيات مناسبة للتعامل معها، يمكن للشخص التغلب على هذه المشكلة وتحقيق أهدافه بشكل أكثر فعالية. الفهم العميق للسلوك البشري واستخدام التقنيات المدروسة يمكن أن يسهم في تطوير استراتيجيات فعّالة تتناسب مع طبيعة الإنسان وتعزز من قدرته على الالتزام والتحقق من النجاح.
