من أقوال ابن رشد
يُعدّ الفيلسوف الأندلسي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (1126–1198م) أحد أبرز أعلام الفكر الإسلامي والفلسفة في العصور الوسطى، وواحدًا من أعظم من شرحوا فلسفة أرسطو للعالم الغربي. شكّل ابن رشد جسراً حضارياً بين الشرق والغرب، وكانت لأقواله وفكره أثرٌ بالغ على تطور الفلسفة والعقلانية في أوروبا، لا سيما خلال عصر النهضة. لم يكن ابن رشد مجرّد ناقلٍ للمعرفة، بل مفكّراً أصيلاً جاهد لإثبات التلاقي بين العقل والنقل، وبيّن في كتاباته أن الدين الحق لا يتعارض مع الفلسفة الحقة. وتظهر أقواله هذه الرؤية المتزنة بعمقها الإنساني والفكري.
أولاً: الفلسفة والعقل من منظور ابن رشد
من أشهر أقوال ابن رشد:
«من لم يثق بالعقل لم يثق بعلمه، لأن العلم نتيجة العقل.»
في هذا القول، يؤكّد ابن رشد أن كل معرفة إنسانية حقيقية تنبع من العقل. فالعقل ليس أداةً فحسب، بل هو مرآة الحقيقة. ويعكس هذا التصور النزعة العقلانية التي تميّز بها ابن رشد، والتي مثّلت نقطة تماس مع الفلسفة الإغريقية، لا سيما مع أرسطو الذي كان له تأثير عميق عليه.
«الحقيقة لا تُضادّ الحقيقة، بل توافقها وتشهد لها.»
يرى ابن رشد أن الحقيقة واحدة، سواء أتت من الدين أو من الفلسفة. ويؤسس بهذا القول لمبدأ التوافق بين الشريعة والحكمة، مبيّناً أن التناقض الظاهري بين النص الديني والفكر العقلي إنما هو نتيجة للقصور في الفهم أو في التأويل، لا في الحقيقة ذاتها.
ثانيًا: في الدين والتأويل والاجتهاد
من أقواله المشهورة في هذا السياق:
«إذا تعارضت الشريعة مع البرهان، وجب تأويل الشريعة.»
يضع ابن رشد هنا العقل فوق ظاهر النص، دون أن يُنكر النص أو يُهمّشه، بل يدعو إلى تأويله تأويلاً صحيحاً يتماشى مع مقاصده العليا. وهذا الموقف الإصلاحي في الفكر الديني مثّل موقفاً جريئاً في زمنه، وأسّس لنمط من الاجتهاد العقلي الذي يمكّن الشريعة من الاستمرار والتطور في ضوء المعرفة الإنسانية المتجددة.
«إن الله لم يخلقنا عميانًا، بل خلق لنا العقل لنفكر.»
هذه العبارة تحمل في طيّاتها دعوة صريحة لنبذ التقليد الأعمى والتواكل الفكري، وتشجيع الإنسان على استخدام ملكاته العقلية في فهم الدين والعالم. ابن رشد يرى أن الإيمان الحقيقي لا يكون بالتلقين وإنما بالفهم والتأمل.
ثالثاً: في العلم والتعليم
ابن رشد كان طبيباً وعالمًا في الفقه والفلك والرياضيات والفلسفة، ولذلك لم تكن أقواله في العلم تعبيراً عن تنظير مجرد، بل خلاصة تجربة عميقة. من أبرز أقواله في هذا الباب:
«العلم زين فاعلم، والعقل فضل فاستعمل.»
يجمع هذا القول بين الدعوة إلى طلب العلم، واستخدام العقل في تفعيله وتوجيهه. فالعلم دون عقل لا يُنتج فكرًا، والعقل دون علم يقود إلى الارتجال والضلال. ابن رشد يدعو إلى التوازن بين المعرفة العقلية والتطبيق الواعي لها.
«التعليم لا يكون بالتلقين، بل بفتح العقول.»
هنا تظهر فلسفة تربوية متقدمة، ترفض الحفظ والتكرار وتدعو إلى إعمال الفكر وتحفيز الطالب على التساؤل والتحليل. وهي فلسفة كانت وما تزال تمثل أساس أي نهضة معرفية حقيقية.
رابعًا: في الحرية والفكر والوجود الإنساني
يبرز ابن رشد قيمة الإنسان من خلال أقواله التي تؤكد على حرية الإرادة ومسؤولية الفرد في بناء مجتمعه، ومن ذلك قوله:
«الحرية هي أساس الإبداع، والعقل حارسها الأمين.»
ويعني هذا أن الإبداع لا يمكن أن يزدهر في بيئة تسودها القهر والجمود. ويرى أن دور العقل لا يقتصر على فهم الأمور، بل يمتد إلى حماية حرية الإنسان وكرامته، ومن ثمّ دفعه إلى التقدّم والرقي.
ومن أقواله الدالة على قيمة الوجود الإنساني:
«الجهل يؤدي إلى الخوف، والخوف يؤدي إلى الحقد، والحقد يؤدي إلى العنف.»
هنا تحليل دقيق لدوامة الانحدار الإنساني، تبدأ بالجهل وتنتهي بالعنف. وهي دعوة ضمنية إلى التنوير، إذ لا سبيل للخروج من تلك الدائرة إلا بالعلم والوعي وبناء الإنسان العاقل المستنير.
خامسًا: موقفه من المرأة والتعليم
ابن رشد من القلائل الذين تحدثوا عن دور المرأة في بناء الحضارة الإسلامية في زمن هيمنت فيه رؤى تقليدية تنقص من مكانتها. من أقواله اللافتة:
«المرأة إنسان مثل الرجل، وإذا أُتيح لها التعليم والتدريب، تفوقت مثله.»
وهذا القول يتجاوز عصره بشكل لافت، ويعكس فهمًا عميقًا لمكانة المرأة في بناء المجتمع. فهو يدعو إلى مساواة حقيقية، لا بالشعارات، بل بتوفير فرص واقعية متكافئة في التعليم والعمل.
سادسًا: أثر أقواله في الفلسفة الأوروبية
أقوال ابن رشد لم تقتصر على العالم الإسلامي، بل أثّرت بعمق في الفكر الأوروبي الوسيط، حيث تُرجم معظم كتبه إلى اللاتينية والعبرية، وكان يُعرف في أوروبا باسم Averroes. وقد كان لأقواله في العقلانية والتفسير العقلي للدين تأثير مباشر في فلاسفة كبار مثل توما الأكويني وساجر دومينيك وحتّى ديكارت لاحقًا.
وقد اعتمد الفلاسفة الأوروبيون على قول ابن رشد:
«العقل هو أعدل قسمة بين الناس، ولكن الناس لا يستعملونه سواسية.»
وهو قول يشبه إلى حد بعيد مقولة ديكارت لاحقًا: “العقل أعدل الأشياء قسمةً بين الناس”. وهذا يعكس الأثر العميق الذي تركه ابن رشد في مسار تطور الفكر الغربي.
جدول مختصر يوضح أهم أقوال ابن رشد وتصنيفاتها
| التصنيف | القول | الدلالة الفكرية |
|---|---|---|
| الفلسفة والعقل | من لم يثق بالعقل لم يثق بعلمه | أولوية العقل في إنتاج المعرفة |
| الدين والتأويل | إذا تعارضت الشريعة مع البرهان، وجب تأويل الشريعة | توافق الدين مع العقل |
| العلم والتعليم | التعليم لا يكون بالتلقين، بل بفتح العقول | أهمية التفكير النقدي |
| الإنسان والحرية | الحرية أساس الإبداع، والعقل حارسها الأمين | العلاقة بين العقل والتحرر |
| المرأة والتعليم | المرأة إنسان مثل الرجل، وإذا أُتيح لها التعليم تفوقت | المساواة في الإمكانيات |
| الفلسفة الأوروبية | العقل أعدل قسمة، ولكن الناس لا يستعملونه سواسية | أثره على الفلاسفة الغربيين |
سابعاً: نقده للفكر الغيبي والخرافة
كان ابن رشد من أوائل من واجهوا الفكر الخرافي، ودعوا إلى نقضه بالحجة والبرهان. وقد قال:
«الخرافة عدوة العقل، وهي تُنتج الوهم وتقتل الحقيقة.»
في هذا القول رفضٌ صريح للخرافات المنتشرة التي تعيق العقل عن أداء وظيفته في الفهم والتفسير. وهو موقف تنويري أصيل يتجاوز الزمان والمكان، ويظل صالحاً في كل عصر.
ثامناً: وفاته وخلود أقواله
توفي ابن رشد في مراكش سنة 1198م، ونُقل جثمانه إلى قرطبة حيث دُفن. وقد ظلّت أقواله حيّة، تتناقلها الكتب وتُستشهد بها في محافل الفكر والعلم، لما تحمله من قوة برهانية واتزان فكري وفهم عميق لطبيعة الإنسان والدين والمجتمع.
لقد كان ابن رشد بحق فيلسوف العقل، وأقواله تمثل مرجعية كبرى في كل ما يتعلّق بالتفكير النقدي، العقلانية، الإصلاح الديني، وحقوق الإنسان. وإذ نقرأ هذه الأقوال اليوم، فإنها لا تبدو قديمة أو منسية، بل تضيء عتمة الحاضر، وتستحث على بناء مستقبل يستند إلى الفكر والمعرفة، لا إلى التقليد والجمود.
المراجع:
-
ابن رشد: فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال – دار الفكر العربي
-
Erwin Rosenthal – Averroes: A Rationalist in Islam, Cambridge University Press
