قوة العطاء وأثره العميق

قوة العطاء: فلسفة إنسانية تُحيي القلوب وتبني المجتمعات

العطاء، بمختلف أشكاله، يُعدّ من أسمى القيم الإنسانية التي ترقى بالبشر نحو التكافل والرحمة، وهو جوهر التمدن ولبّ الأديان والحضارات. إن مفهوم العطاء لا يقتصر على تقديم المال أو الأشياء المادية فحسب، بل يتعداه إلى أن يكون سلوكًا وروحًا تُعطي بلا منٍّ أو انتظار للمقابل. وفي هذا الامتداد العميق لمفهوم العطاء، تتجلى قوة غير مرئية لكنها فعالة، تُحدث تغييرات جذرية في النفس البشرية والمجتمع ككل، وتساهم في خلق عالم أكثر إنسانية وتضامنًا.

مفهوم العطاء وأبعاده الوجودية

العطاء هو فعل يتجاوز المعاملات الاجتماعية المادية، ليكون تجليًا من تجليات النفس الراقية التي ترتقي على أنانيتها، وتفضّل الخير العام على المصلحة الشخصية. ومن الناحية الفلسفية، يُمكن اعتبار العطاء تعبيرًا عن “الوجود من أجل الآخر”، وهو أحد المفاهيم المحورية في الأخلاق الإنسانية، إذ لا يكتمل الإنسان إلا بانفتاحه على الآخر، وتقديم ما يستطيع لخدمته ومساعدته.

ويحمل العطاء أبعادًا وجودية عميقة، فحين يُقدّم الإنسان من ماله أو وقته أو جهده للآخر، فإنه يعترف ضمنيًا بترابط المصير الإنساني، ويكسر جدار الفردية الضيقة، ليندمج في نسيج جماعي يتقاسم الألم والأمل.

أنواع العطاء: تنوع في الأشكال واتحاد في الأثر

للعطاء أشكال متعددة، تختلف من حيث الوسائل ولكنها تتفق من حيث الغاية، وهي تحقيق الخير والنفع للغير. ومن أبرز هذه الأشكال:

1. العطاء المادي:

ويشمل التبرعات المالية، إطعام المحتاجين، كفالة الأيتام، والمساهمة في بناء المستشفيات والمدارس، وغيرها من صور الدعم المالي التي تُساهم في رفع المعاناة عن الفئات الهشة في المجتمع.

2. العطاء المعنوي:

ويتمثل في الدعم النفسي، الكلمة الطيبة، الإصغاء لمن يحتاج إلى من يسمعه، الإرشاد والنصح، وتقديم المشورة المجانية. وهو عطاء لا يقل أهمية عن المادي، إذ يلامس النفس ويشفي جراحها.

3. العطاء الفكري والعلمي:

يشمل تقديم المعرفة والتعليم مجانًا، وتبادل الخبرات، وتأليف الكتب ونشر البحوث، والمشاركة في ورش العمل والمحاضرات لنقل العلم. وهذا النوع من العطاء يسهم في تطوير المجتمع ورفع مستواه الثقافي والعلمي.

4. العطاء الزمني:

ويعني تخصيص الوقت للآخرين، سواء في التطوع، أو في زيارة المرضى، أو في تقديم الخدمات المجتمعية، أو حتى في تعليم الأطفال ومساعدة كبار السن. فالزمن أثمن ما يملكه الإنسان، ومن يهبه للغير فإنما يقدم عطاءً خالصًا من قلبه.

الأثر النفسي للعطاء على المعطي

العطاء لا يترك أثره الإيجابي على المتلقي فحسب، بل يُعدّ نعمة عظيمة تعود على المعطي أيضًا. الدراسات النفسية الحديثة أظهرت أن الأفراد الذين يمارسون العطاء بانتظام يتمتعون بمعدلات أعلى من الرضا النفسي، وانخفاض في مستويات القلق والاكتئاب، وتحسّن عام في الصحة النفسية والجسدية.

يُحفّز العطاء الدماغ على إفراز مواد كيميائية مثل الدوبامين والأوكسيتوسين، وهي المسؤولة عن مشاعر السعادة والرضا والارتباط الاجتماعي. كما يعزز العطاء من ثقة الإنسان في نفسه ويشعره بقيمته الوجودية، مما يساعده على تجاوز الأزمات النفسية والتحديات الحياتية.

العطاء كأداة لبناء المجتمعات المتماسكة

في سياق بناء المجتمع، يُعتبر العطاء أداة فعالة في تحقيق التوازن الاجتماعي وتقليص الفوارق الطبقية. عندما يلتزم أفراد المجتمع بالعطاء، تنشأ بينهم علاقات قائمة على التعاون والرحمة والتعاطف، مما يعزز من وحدة النسيج المجتمعي ويقلل من النزاعات والصراعات.

فالمجتمعات التي تسود فيها ثقافة العطاء تزداد فيها معدلات الأمن والاستقرار، وتنتشر روح المبادرة والمواطنة، ويتعزز الشعور بالمسؤولية الجماعية. كما أن العطاء يُسهم في سدّ الثغرات التي تعجز المؤسسات الرسمية عن معالجتها، فيكون بمثابة شبكة أمان اجتماعي فاعلة.

العطاء في الأديان والفكر الإنساني

جميع الأديان السماوية والحركات الفلسفية الكبرى حثّت على العطاء وجعلته من الفضائل الكبرى. ففي الإسلام، ورد قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]، مشيرًا إلى قمة نكران الذات في العطاء. وفي المسيحية، جاء في الإنجيل: “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ”. وفي البوذية، يُعتبر الكرم أحد المبادئ الأساسية للوصول إلى التنوير.

أما في الفكر الإنساني، فقد أشار المفكر الفرنسي ألبير كامو إلى أن “الحرية الحقيقية تُقاس بمقدار ما يمكن أن نعطيه للآخرين”، في حين اعتبر غاندي أن “الطريقة الوحيدة لإيجاد نفسك هي أن تضيعها في خدمة الآخرين”.

العطاء كقوة اقتصادية وتنموية

يتجاوز العطاء حدوده الفردية ليُصبح أداة فعالة في تعزيز التنمية المستدامة. فقد أظهرت تقارير التنمية أن المجتمعات التي تستثمر في العمل الخيري والتطوعي تشهد معدلات نمو اقتصادي أعلى، حيث تُسهم المنظمات غير الحكومية والجمعيات الخيرية في خلق فرص العمل، وتنشيط الاقتصاد المحلي، وتوفير خدمات لا تستطيع الحكومات تقديمها بالكامل.

وفي هذا السياق، يُعدّ العطاء أداة تكاملية تساهم في التخفيف من حدة الفقر، وتعزيز التعليم، وتحسين مستوى الصحة العامة، وذلك من خلال مبادرات المسؤولية الاجتماعية، وصناديق الزكاة، والوقف، والعمل الخيري المؤسسي.

الفرق بين العطاء الحقيقي والمظهري

رغم شيوع ثقافة العطاء في المجتمعات، إلا أن التمييز بين العطاء الحقيقي والمظهري ضروري لفهم جوهر هذه القيمة. فالعطاء الحقيقي ينبع من نية خالصة ومجردة عن الرياء أو المصلحة الشخصية، ويُمارَس بتواضع وبعيدًا عن الأضواء. أما العطاء المظهري، فهو الذي يُمارس لتحقيق مكاسب اجتماعية أو سياسية، أو لنيل الشهرة والثناء، وغالبًا ما يُفقد العطاء معناه وقيمته.

وقد أكد العديد من العلماء والمفكرين أن العطاء الحقيقي لا يقاس بحجمه، بل بنيّته، إذ قد تكون ابتسامة صادقة أو كلمة دعم أقوى في تأثيرها من ثروة تُنفق دون إخلاص.

العطاء في عصر الفردية والتكنولوجيا

رغم التقدم التكنولوجي والانفتاح العالمي، إلا أن مظاهر الفردية والاستهلاك المفرط قد قلّصت من مساحة العطاء الحقيقي. في عالم تحكمه السرعة والمصالح، أصبح من الصعب على البعض تخصيص وقت أو جهد للآخرين، ما أدى إلى ازدياد مشاعر العزلة والانفصال.

ومع ذلك، فإن نفس هذه التكنولوجيا يمكن أن تتحول إلى وسيلة لتعزيز العطاء، من خلال المنصات الإلكترونية للتبرعات، والتطوع عن بُعد، وتبادل الخبرات والمعرفة عبر الإنترنت. وهنا تتجلى قوة العطاء في قابليته للتكيف مع كل الأزمنة والوسائل.

العطاء كمسؤولية حضارية

في زمن الأزمات والكوارث، سواء كانت بيئية أو صحية أو إنسانية، يظهر العطاء كاستجابة حضارية راقية لمواجهة هذه التحديات. وقد أثبتت الأحداث الكبرى، مثل جائحة كوفيد-19، أن المجتمعات التي تسود فيها روح العطاء والتعاون كانت الأقدر على الصمود والتعافي.

إن تحويل العطاء من مجرد خيار إلى التزام حضاري يتطلب ترسيخ هذه القيمة في التربية والتعليم والإعلام، وجعلها جزءًا من هوية الفرد والمجتمع. فبناء الإنسان المتكامل لا يكتمل إلا بتعليمه كيف يعطي، لا ما يأخذ فقط.

العطاء في الأرقام: بيانات وأمثلة

توضح بعض التقارير الدولية الأثر الضخم للعطاء على التنمية البشرية والاقتصادية:

خاتمة: نحو ثقافة عطاء مستدامة

إن قوة العطاء تكمن في كونه عملية مزدوجة، تربح فيها النفس قبل أن يستفيد منها الغير. وكلما انتشرت ثقافة العطاء في مجتمع ما، ازداد تماسكه وتحضّره وقدرته على التغيير والنهوض. لذلك، فإن من أولويات المجتمعات الواعية أن تبني أنظمة تُعزز هذه القيمة وتكرّسها كأسلوب حياة لا كفعل موسمي أو طارئ. فالعطاء، حين يكون نابعًا من القلب، يصبح طاقة نورانية قادرة على شفاء المجتمعات وبعث الأمل في نفوس الأفراد.

المراجع:

1. تقرير مؤسسة Giving USA Foundation (2023).

2. تقرير الأمم المتحدة للتطوع والتنمية البشرية (UNV, 2022).