أقرب كوكب إلى الأرض: عطارد أم الزهرة؟
عند الحديث عن الكواكب المجاورة للأرض، يتبادر إلى الذهن تلقائيًا كوكب الزهرة، الذي يُعتبر تقليديًا أقرب جيران الأرض من حيث المدار. غير أن الدراسات الفلكية الحديثة أظهرت أن الصورة أكثر تعقيدًا من مجرد مقارنة بين المسافات المدارية. فمع تطور النماذج الرياضية ودراسة الحركة النسبية للكواكب في النظام الشمسي، بات بالإمكان إعادة تعريف “القرب الكوكبي” ليس فقط بناءً على المسافة المدارية، بل أيضًا وفقًا للزمن الذي يقضيه كوكب ما قريبًا من الأرض خلال دورانه حول الشمس.
في هذا المقال المفصل، نستعرض مفهوم القرب بين الكواكب من الزاوية الفلكية والهندسية، ونحلل الأسباب التي تدفع بعض العلماء إلى اعتبار كوكب عطارد وليس الزهرة هو الأقرب إلى الأرض وفقًا لمعايير علمية دقيقة. كما نتناول خصائص عطارد والزهرة، لنفهم كيف يختلفان عن كوكبنا الأزرق رغم القرب المداري.
النظام الشمسي وترتيب الكواكب
يتكوّن النظام الشمسي من ثمانية كواكب رئيسية تدور حول الشمس، وهي بالترتيب من الأقرب إلى الأبعد: عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، زحل، أورانوس، ونبتون. ويحتل كوكب الأرض المرتبة الثالثة في هذا الترتيب، مما يجعله محاطًا من الجهتين بكوكبي الزهرة والمريخ.
من حيث المدار، يُعد الزهرة هو الكوكب الأقرب إلى الأرض، يليه المريخ، ثم عطارد، رغم أن عطارد هو الأقرب إلى الشمس من جميع الكواكب. وبالاعتماد على هذا الترتيب، فإن الزهرة غالبًا ما يُشار إليه كأقرب جيران الأرض.
غير أن هذا التصور تغير مؤخرًا بعد نشر دراسة علمية في عام 2019 في مجلة Physics Today، استخدمت نموذجًا رياضيًا يسمى “متوسط المسافة المدارية النسبية” لحساب متوسط قرب الكواكب من بعضها البعض عبر الزمن. وأظهرت النتائج أن عطارد، وليس الزهرة، هو في الواقع الكوكب الذي يقضي أطول وقت كونه الأقرب إلى الأرض خلال مداراتها حول الشمس.
إعادة تعريف “القرب الكوكبي”
مفهوم القرب المداري الذي يستند إلى متوسط المسافة بين مداري كوكبين يمكن أن يكون مضللًا. فالكواكب لا تدور حول الشمس على خطوط مستقيمة، بل على مدارات بيضاوية مختلفة السرعة والانحدار. وهذا يعني أن المسافة الفعلية بين كوكبين متجاورين تختلف بشكل كبير بمرور الوقت.
عندما يتم النظر إلى متوسط المسافة الفعلية بين الكواكب عبر الزمن، يظهر أن عطارد – رغم كونه أقرب إلى الشمس – يتقاطع بشكل أكثر انتظامًا مع مدار الأرض، ويقضي وقتًا أطول بالقرب منها من الزهرة أو حتى المريخ.
ووفقًا للنموذج الرياضي الذي ابتكره الباحثون، فإن كوكب عطارد هو الأقرب إلى الأرض 46٪ من الوقت، بينما الزهرة هو الأقرب 36٪ فقط، ويأتي المريخ في المرتبة الثالثة بنسبة 18٪. هذا النموذج يعتمد على حساب المسافة بين كل كوكب وكل الكواكب الأخرى كل يوم على مدار آلاف السنين، ثم يحسب المتوسط.
مقارنة بين عطارد والزهرة
| الخاصية | عطارد | الزهرة |
|---|---|---|
| الترتيب من الشمس | الأول | الثاني |
| متوسط البُعد عن الشمس | 57.9 مليون كم | 108.2 مليون كم |
| متوسط البُعد عن الأرض | 91.7 مليون كم | 41.4 مليون كم |
| الغلاف الجوي | شبه معدوم | كثيف وغني بثاني أكسيد الكربون |
| درجة الحرارة | تتراوح من -173 إلى 427°C | حوالي 462°C ثابتة تقريبًا |
| مدة اليوم | 58.6 يوم أرضي | 243 يوم أرضي (أطول من سنة الزهرة) |
| مدة السنة | 88 يومًا | 225 يومًا |
ورغم أن الزهرة يبدو أقرب للأرض من حيث المسافة في أشد نقطتي اقتراب، إلا أن عطارد يقضي وقتًا أطول بجوار الأرض بسبب سرعة دورانه حول الشمس، ومداره الأقرب الذي يجعله يقترب نسبيًا أكثر في المدى البعيد.
لماذا يبدو الزهرة الأقرب تقليديًا؟
يرجع الاعتقاد السائد بأن الزهرة أقرب إلى الأرض إلى قربه المداري النسبي، إذ أن مداره حول الشمس يبعد حوالي 108 مليون كيلومتر، مقارنةً بـ 150 مليون كيلومتر للأرض. كما أن الزهرة يُرى في السماء كنجم ساطع في أوقات الفجر أو الغروب، وهو ثاني أسطع جرم سماوي بعد القمر، مما يجعله مرئيًا للعين المجردة بوضوح.
أما عطارد، رغم أنه أقرب إلى الأرض في معظم الأوقات بحسب النماذج الجديدة، فإنه قلما يُشاهد بالعين المجردة بسبب قربه الشديد من الشمس، مما يجعله يغرب معها أو يشرق قبلها بفترة قصيرة جدًا.
الخصائص المدارية ودورها في تحديد القرب
السرعة المدارية تلعب دورًا حاسمًا في مدى تقارب الكواكب من بعضها على مدى الزمن. عطارد يدور حول الشمس بسرعة تبلغ حوالي 47.9 كم/ثانية، وهي أسرع بكثير من سرعة الزهرة البالغة 35 كم/ثانية. هذا يعني أن عطارد يكمل دورته حول الشمس في 88 يومًا فقط، مقابل 225 يومًا للزهرة.
نتيجة لهذه السرعة، يعبر عطارد المنطقة الواقعة بينه وبين الأرض بشكل متكرر، بينما يأخذ الزهرة وقتًا أطول للوصول إلى نقاط قريبة نسبيًا من الأرض، مما يقلل من معدل تقاربه.
عطارد من منظور الفلك الحديث
رغم أن عطارد لم يكن موضع اهتمام شائع مثل الزهرة أو المريخ، إلا أنه يُعد من الكواكب الغامضة والهامة في النظام الشمسي. فهو يحتوي على قلب معدني كبير بالنسبة لحجمه، ويُعتقد أنه يمثل بقايا كوكب أكبر فقد جزءًا من طبقاته الخارجية نتيجة اصطدام هائل في الماضي السحيق. كما أن سطحه مليء بالفوهات الصدمية، ما يجعله مشابهًا للقمر من بعض الجوانب.
لا يمتلك عطارد غلافًا جويًا حقيقيًا، وإنما مجرد غلاف رقيق للغاية لا يستطيع حجز الحرارة، وهو ما يؤدي إلى تفاوت كبير في درجات الحرارة بين جانبيه النهاري والليلي. ولأنه لا يدور حول نفسه بسرعة، فإن يومه الطويل يجعل الشمس تبدو وكأنها تتراجع وتعود للظهور في سمائه، في مشهد فلكي نادر ومعقد.
أهمية هذا الاكتشاف في فهم ديناميكية النظام الشمسي
تغيير المفهوم التقليدي لأقرب الكواكب إلى الأرض من الزهرة إلى عطارد، ليس فقط إعادة تصحيح لمعلومة فلكية، بل هو أيضاً نموذج لفهم أعمق لديناميكية النظام الشمسي، وكيف يمكن للنماذج الرياضية أن تعيد صياغة مفاهيم علمية راسخة لقرون.
هذا التغيير يحمل في طياته تأثيرات مباشرة على مجالات مثل هندسة الفضاء ومهام المركبات الفضائية، حيث يمكن لهذه الحسابات أن تؤثر على قرارات متعلقة بتوقيت الرحلات الفضائية وتخطيط المدارات والمناورات بين الكواكب.
خلاصة
رغم أن كوكب الزهرة يعتبر تقليديًا الأقرب إلى الأرض من حيث المدار، إلا أن الدراسات الفلكية الحديثة التي اعتمدت على متوسط المسافة المدارية النسبية أوضحت أن عطارد هو في الواقع أقرب كوكب إلى الأرض خلال معظم الأوقات.
هذا الاكتشاف يعيد ترتيب أولويات البحث الفلكي، ويعزز أهمية استخدام النماذج الرياضية الدقيقة لفهم الحركات المعقدة للأجرام السماوية. عطارد، الكوكب الأصغر والأقرب إلى الشمس، يثبت مرة أخرى أن الحقائق الفلكية ليست دائمًا كما تبدو من النظرة الأولى، وأن الكون مليء بالمفاجآت كلما دققنا النظر في تفاصيله.
المصادر:
-
Physics Today, 2019 – Article on planetary proximity by Tom Stockman et al.
-
NASA Planetary Fact Sheets – https://nssdc.gsfc.nasa.gov/planetary/planetfact.html
