الصدمة العاطفية من شخص عزيز عليك: الألم الصامت الذي يعصف بالنفس

تُعد الصدمة العاطفية واحدة من التجارب النفسية الأكثر قسوة في حياة الإنسان، ولا تتجلى آثارها المدمرة بوضوح في لحظة وقوعها، بل تمتد جذورها في عمق النفس، وتؤثر على السلوك، والعلاقات، وحتى البنية الجسدية للإنسان. ولكن عندما تأتي هذه الصدمة من شخص عزيز – صديق مقرب، شريك حياة، أحد أفراد العائلة – فإنها تكتسب بعداً أكثر خطورة، لأنها تضرب في عمق الثقة والطمأنينة التي كان هذا الشخص يمثلها.

يتناول هذا المقال الجوانب النفسية والعصبية والاجتماعية للصدمة العاطفية الناجمة عن الخذلان أو الأذى من شخص مقرب، ويوضح كيف تؤثر هذه الصدمة في الكيان الإنساني، ويستعرض سبل فهمها، التعايش معها، ومحاولة الشفاء منها.

تعريف الصدمة العاطفية

الصدمة العاطفية هي استجابة نفسية عنيفة لحادث مؤلم أو موقف يهزّ الاستقرار النفسي للفرد بشكل مفاجئ، وغالباً ما تكون مرتبطة بأحداث مثل الخيانة، الفقدان، الخذلان، أو الاعتداء النفسي. وتحدث الصدمة العاطفية عندما يتعرض الإنسان لما يفوق قدرته على الاستيعاب أو التكيف، ما يؤدي إلى اضطراب في وظائف الدماغ، والمشاعر، وحتى أداء الجسم.

وتزداد حدة الصدمة عندما تأتي من شخص عزيز، لأن العلاقة العاطفية تنطوي على التوقعات، الثقة، والارتباط الوجداني، وحين يُكسر هذا الرابط فجأة، تصبح النفس في حالة صراع بين مشاعر الحب القديمة ومشاعر الألم والغضب الجديدة.

الآثار النفسية للصدمة من شخص عزيز

الخذلان من شخص موثوق أو محبوب له وقع خاص على النفس البشرية، ويتجلى في عدة صور:

1. فقدان الثقة

غالباً ما تتسبب الصدمة من شخص مقرب في زعزعة ثقة الفرد في الآخرين، وفي بعض الحالات، قد تتعدى الأمر لتشمل فقدان الثقة بالنفس وبالحكم الشخصي على الناس. يبدأ الشخص في الشك في قدرته على تقييم العلاقات أو اتخاذ قرارات سليمة.

2. القلق واضطرابات النوم

المواقف الصادمة تؤدي إلى زيادة مستويات هرمون الكورتيزول والأدرينالين، مما يسبب فرط اليقظة، القلق المستمر، وكوابيس متكررة، واضطراب النوم، وهو ما يؤدي بدوره إلى إرهاق نفسي مزمن.

3. الاكتئاب

يترافق الخذلان مع الشعور بالخسارة، وأحياناً بفقدان جزء من الذات. قد تظهر أعراض الاكتئاب مثل الحزن المستمر، فقدان الشغف، الانسحاب الاجتماعي، وحتى التفكير في إيذاء الذات.

4. اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)

في بعض الحالات، وخاصة في حال حدوث صدمات متكررة أو قوية، قد يتطور الأمر إلى اضطراب ما بعد الصدمة، حيث تتكرر ذكريات الحدث الصادم بشكل قهري، ويشعر الشخص بأنه يعيش التجربة من جديد في كل مرة.

الأثر الجسدي للصدمة النفسية

الصدمة العاطفية لا تقتصر على العقل فقط، بل تمتد إلى الجسد، حيث تتسبب في:

• ضعف الجهاز المناعي.

• زيادة معدل ضربات القلب وضغط الدم.

• اضطرابات في الجهاز الهضمي.

• مشاكل في الجلد مثل الإكزيما أو تساقط الشعر.

• اضطرابات في الشهية والنوم.

كما تؤكد الأبحاث أن التوتر العاطفي المزمن يؤثر على الدماغ بشكل مباشر، خاصة في منطقة “الحُصين” المسؤولة عن الذاكرة، ما يفسر ضعف التركيز والنسيان المتكرر بعد الصدمات النفسية.

الخذلان العاطفي: كسر الروابط الإنسانية

الخذلان من شخص قريب غالباً ما يكون أشبه بانهيار عمود أساسي في البنيان النفسي. هذا النوع من الخيانة لا يكون سطحياً، بل يتغلغل في الروح، ويغير نظرة الشخص للحياة والعلاقات. فالعزيز الذي كان يُنظر إليه كملاذ آمن، يصبح فجأة مصدر ألم وتهديد. هذا التناقض يؤدي إلى صراع داخلي بين مشاعر الوفاء والرغبة في الانتقام، وبين الحاجة إلى القرب والخوف من التكرار.

ديناميكيات العلاقات السامة

العلاقات السامة تُعد بيئة خصبة للصدمة العاطفية، خاصة إذا استمرت لفترة طويلة دون وعي من الطرف المتضرر. ففي كثير من الأحيان، يمارس الشخص العزيز أساليب تلاعب نفسي مثل:

• اللوم المستمر: يجعل الطرف الآخر يشعر بالذنب دائماً.

• التقليل من المشاعر: حين يُقال للشخص المتألم إنه “يبالغ” أو “حساس”.

• الانسحاب العاطفي: استخدام الصمت كسلاح.

• التلاعب العاطفي: استخدام الحب كأداة للسيطرة بدلاً من الدعم.

مراحل الصدمة العاطفية

تمر الصدمة العاطفية بعدة مراحل، تشبه إلى حد كبير مراحل الحزن، وهي:

تأثير الصدمة على العلاقات المستقبلية

الشخص الذي تعرض لصدمة عاطفية من شخص مقرب قد يجد صعوبة في الدخول في علاقات جديدة، حتى بعد مرور سنوات من الحادثة. تظهر هذه الصعوبات في شكل:

• خوف مفرط من التعلق.

• الميل إلى العزلة.

• توقع الخيانة بشكل دائم.

• التفاعل العاطفي المبالغ فيه مع الأحداث البسيطة.

وهذا السلوك لا ينبع من ضعف أو مبالغة، بل هو نتيجة تراكمات نفسية يصعب السيطرة عليها دون دعم أو علاج نفسي متخصص.

دور الذكريات والتعلّق العاطفي

الإنسان بطبيعته كائن مرتبط بالذاكرة، ويصعب عليه الانفصال عن لحظات السعادة التي عاشها مع الشخص العزيز. المشكلة تكمن في أن الذكريات الإيجابية غالباً ما تتداخل مع التجارب السلبية، فتُشوّش على القدرة في اتخاذ قرار بالابتعاد. كما أن التعلّق العاطفي قد يدفع الشخص إلى تبرير الأذى، أو حتى التوسل لبقاء العلاقة رغم الألم الذي تسببه.

سبل التكيف والشفاء

الصدمة النفسية لا تُمحى بسهولة، لكنها قابلة للتعامل معها، والتعافي منها بمرور الوقت من خلال:

1. الاعتراف بالألم

التعافي يبدأ حين يعترف الإنسان بألمه، ويمنح نفسه الحق في الحزن، بدلاً من كبت المشاعر أو تجاهلها.

2. الحديث مع مختص نفسي

العلاج النفسي الفردي أو الجماعي يمكن أن يساعد في إعادة تنظيم الأفكار والتعبير عن المشاعر بطريقة صحية.

3. إعادة بناء الثقة

تُبنى الثقة من جديد بالتدريج، من خلال التعامل مع علاقات صحية، ووضع حدود واضحة.

4. الممارسات الجسدية

ممارسة الرياضة، التأمل، تمارين التنفس، واليوغا تساعد في تخفيف التوتر الجسدي والعقلي الناتج عن الصدمة.

5. الكتابة والتفريغ النفسي

تُعد كتابة اليوميات وسيلة فعالة للتعبير عن المشاعر وتحليل الموقف بمرور الوقت.

البُعد الروحي والتصالح مع الذات

في كثير من الثقافات، يُنظر إلى الألم النفسي بوصفه تجربة إنسانية سامية تقود إلى النضج والنقاء الداخلي. فحين يفقد الإنسان ثقته في الآخرين، يبدأ رحلة عميقة نحو ذاته، ويكتشف قدراته الداخلية التي كان يغفل عنها. وفي هذا السياق، تُصبح الصدمة العاطفية نقطة تحوّل، لا نهاية.

الخاتمة

الصدمة العاطفية من شخص عزيز هي واحدة من أكثر التجارب إيلاماً في الحياة النفسية للإنسان، لكنها في الوقت نفسه تجربة كاشفة، تعرّي الحقائق وتُسقط الأقنعة. قد تبقى آثارها في القلب والعقل طويلاً، لكن مع الوعي والرعاية والدعم المناسب، يمكن تحويل هذا الألم إلى قوة، وهذه الخسارة إلى درس، وهذا الجرح إلى طريق للشفاء والنضوج.

المراجع:

1. Herman, J. L. (1997). Trauma and Recovery. Basic Books.

2. van der Kolk, B. A. (2014). The Body Keeps the Score: Brain, Mind, and Body in the Healing of Trauma. Viking.