طريقتان للتخلص من إجهاد اتخاذ القرار عند المدراء

يُعد اتخاذ القرار أحد أبرز التحديات اليومية التي يواجهها المدراء في المؤسسات الحديثة، بغضّ النظر عن نوع القطاع أو حجم الفريق الذي يشرفون عليه. ويُعرف “إجهاد اتخاذ القرار” (Decision Fatigue) بأنه الإرهاق العقلي والنفسي الناتج عن التعرض المستمر لسلسلة من القرارات التي تتطلب التركيز والتحليل والتقييم، مما يؤدي في النهاية إلى ضعف القدرة على اتخاذ قرارات فعّالة وعقلانية مع مرور الوقت.

هذا النوع من الإرهاق لا يظهر فجأة، بل يتسلل تدريجياً إلى سلوك المدير، وقد يُسبب له تراجعًا في الأداء، وتأخيرًا في المشاريع، وتذبذبًا في جودة القرارات المتخذة. وتزداد حدّة المشكلة في بيئات العمل المعاصرة التي تتسم بالتعقيد، وسرعة التغير، وتعدد المهام. وفيما يلي عرض موسّع لطريقتين فعّالتين ومدروستين تساعدان المدراء على التخلص من إجهاد اتخاذ القرار، مدعومة بتحليلات علمية وأمثلة عملية وتطبيقات سلوكية.

أولاً: تقنين عدد القرارات اليومية باستخدام نظام التبسيط (Decision Simplification System)

الأساس العلمي للنظام

تشير الدراسات في علم النفس العصبي إلى أن الدماغ البشري يمتلك قدرة محدودة على اتخاذ قرارات جيدة خلال اليوم. فكل قرار -مهما بدا بسيطاً- يستهلك جزءاً من الطاقة المعرفية (Cognitive Resources). وعندما تتراكم هذه القرارات، تبدأ قدرة الدماغ على التركيز والتحليل في التراجع تدريجياً. هذه الظاهرة تُعرف بـ”تآكل الإرادة” أو “إرهاق اتخاذ القرار”.

مبدأ التبسيط الإداري

تقوم فكرة نظام التبسيط على مبدأ تقنين عدد القرارات التي يتوجب على المدير اتخاذها يوميًا من خلال:

• تفويض بعض أنواع القرارات: مثل القرارات التشغيلية اليومية أو قرارات الجدولة الزمنية، والتي يمكن أن تُسند إلى موظفين موثوقين في الفريق.

• إنشاء قوالب تنظيمية موحدة: مثل نماذج تقييم الموظفين، إجراءات قبول العروض، خطط الطوارئ، وسياسات الموارد البشرية، مما يقلل الحاجة إلى التفكير العميق في كل مرة تُواجه فيها حالة مشابهة.

• توحيد نمط الحياة اليومية: على غرار ما يقوم به العديد من القادة الناجحين مثل مارك زوكربيرغ وباراك أوباما، الذين يرتدون نفس نوعية الملابس يوميًا لتقليل عدد القرارات الصغيرة غير الضرورية، ما يساعد على الاحتفاظ بالطاقة العقلية للقرارات الكبرى.

أثر النظام في البيئة الإدارية

• يخلق هذا النظام مساحة ذهنية أكبر للمدير للتركيز على المهام الإستراتيجية بدلاً من الغرق في التفاصيل اليومية.

• يقلل احتمالية الوقوع في فخ “الشلل التحليلي” الناتج عن كثرة الخيارات.

• يزيد من الكفاءة الزمنية في بيئة العمل ويخفض مستويات التوتر.

ثانياً: تصميم روتين لاتخاذ القرارات قائم على “القواعد العقلانية” (Rule-Based Decision Making)

ما المقصود بالقواعد العقلانية؟

هي مجموعة من المبادئ والقواعد المحددة سلفًا التي تُبنى على تحليل متكرر للقرارات السابقة ونتائجها، وتُستخدم لتقليل الحاجة إلى التفكير الطويل في كل قرار جديد. يُعد هذا الأسلوب من استراتيجيات التفكير المنهجي التي أثبتت فعاليتها في تحسين جودة القرارات وتقليل استنزاف الطاقة الذهنية.

مراحل بناء روتين اتخاذ القرار العقلاني

1. تحليل القرارات المتكررة: من خلال مراجعة أنواع القرارات التي يواجهها المدير أسبوعيًا أو شهريًا، يتم تصنيفها حسب التكرار، والتأثير، والحاجة للتدخل الشخصي.

2. تحديد المتغيرات الثابتة: كل نوع من القرارات عادةً ما يحتوي على عناصر مشتركة يمكن ترميزها في قواعد (مثل “في حال تجاوز التكاليف X٪ من الميزانية، يتم الاستئناس برأي المدير المالي”).

3. صياغة القواعد وتوثيقها: توثيق هذه القواعد في أدلة تشغيل داخلية أو مذكرات عمل بحيث يمكن الرجوع إليها بسهولة.

4. الالتزام بالتطبيق والتحسين الدوري: يتم تدريب الفريق على تطبيق هذه القواعد، ويُجرى تقييم دوري لها لتحسينها بناءً على الخبرة العملية والنتائج المحققة.

أمثلة على القواعد العقلانية في بيئات العمل

فوائد اعتماد القواعد العقلانية

• الحد من القرارات العشوائية والانفعالية.

• تسريع عملية اتخاذ القرار دون التضحية بالجودة.

• توحيد المعايير الإدارية داخل الفريق، مما يعزز الثقة والشفافية.

• تسهيل عملية التدريب والنقل المعرفي في حال تغيير المدير أو أعضاء الفريق.

التداخل الإيجابي بين الطريقتين

لا يُمكن الفصل التام بين نظام التبسيط ونظام القواعد العقلانية، بل إن التداخل بينهما هو ما يمنح المدراء قوة حقيقية في مواجهة الإجهاد الإداري. فالقرارات التي يتم تفويضها أو تنظيمها ضمن أنظمة مبسطة يمكن في الوقت نفسه أن تخضع لقواعد عقلانية موثقة، مما يعزز من قابلية التكرار والتحكم.

من خلال هذا التداخل، تتشكل بيئة عمل مستقرة، يمكن التنبؤ بنتائجها بشكل أكبر، وتُقلل الحاجة المستمرة إلى التدخل الفردي، وهو ما يُعيد للمدير قدرته على التفكير العميق، والتخطيط بعيد المدى، والابتكار.

الختام: نحو ثقافة إدارية متزنة

عندما يتمكن المدير من إدارة طاقة اتخاذ القرار لديه، فإنه لا يحمي فقط صحته النفسية وذهنه من الإجهاد، بل يُعيد ضبط منظومة اتخاذ القرار في المؤسسة بأكملها. إن المنظمات الناجحة اليوم هي تلك التي لا تعتمد على عبقرية القرار الفردي فقط، بل تؤسس لبُنية عقلانية متكاملة تساعد على اتخاذ قرارات فعالة، متزنة، ومتكررة بجودة عالية. الطريقتان الموصوفتان في هذا المقال -التبسيط المنظم وتطبيق القواعد العقلانية- ليستا حلولاً آنية، بل أدوات استراتيجية لبناء ثقافة إدارية حديثة قادرة على الصمود والتطور في عالم سريع التغير.

المراجع

1. Baumeister, R. F., & Tierney, J. (2011). Willpower: Rediscovering the Greatest Human Strength. Penguin Press.

2. Kahneman, D. (2011). Thinking, Fast and Slow. Farrar, Straus and Giroux.