كيف تقاطع الحديث بطريقة هادفة؟ مقاربة تواصلية فعّالة تقوم على الذكاء الاجتماعي والاحترام

تُعدّ مهارة مقاطعة الحديث بطريقة هادفة من الأدوات الأساسية في فنون التواصل الفعّال، وهي مهارة دقيقة تتطلب قدراً عالياً من الذكاء الاجتماعي والفطنة، لأن المقاطعة الخاطئة قد تؤدي إلى الإضرار بسير الحوار وخلق التوتر بين المتحدثين. لا يُقصد بالمقاطعة هنا السلوك الفوضوي أو التسلطي الذي يُستخدم لإسكات الآخر أو فرض الرأي، بل نقصد بها تلك المقاطعة البنّاءة التي تهدف إلى تصويب مسار النقاش، أو توضيح نقطة، أو الاستفسار عن غموض، أو حتى إيقاف تكرار غير مجدٍ، شريطة أن تُمارس ضمن إطار من اللباقة والاحترام.

مفهوم المقاطعة الهادفة

المقاطعة الهادفة هي تدخل مؤقت ومنظم أثناء حديث الطرف الآخر بغرض إضافة قيمة حقيقية للحوار أو إعادة توجيه النقاش بما يخدم الهدف المشترك. وهي تختلف عن المقاطعة السلبية التي تكون بهدف الاستعراض، أو السيطرة على الحديث، أو قطع تسلسل أفكار المتحدث. في بيئات العمل، والاجتماعات، والمحاضرات، والحلقات النقاشية، تصبح هذه المهارة ضرورة لتحقيق الحوار المتوازن والمنظم.

أهمية إتقان فن المقاطعة

إتقان هذه المهارة لا يخدم فقط الفرد بوصفه محاوراً لبقاً، بل يساهم أيضاً في رفع جودة الحوار الجماعي، ويمنع الإطالة أو التشعب أو الانحراف عن الموضوع. وفي عالم يشهد ازدحاماً في المعلومات وتعدد الآراء، يصبح التدخل الهادف ضرورة للحفاظ على وضوح الرؤية والتركيز الجماعي.

من بين الفوائد الأساسية للمقاطعة الهادفة:

• ضبط مسار النقاش وتجنّب الانحراف.

• تصحيح معلومة مغلوطة أو تجنب تعميم خاطئ.

• تسريع الوصول إلى النقاط الأساسية في زمن محدود.

• دعم المتحدثين الأقل حظاً في أخذ فرصتهم في الحديث.

• تقوية روح الفريق ومنع هيمنة جهة واحدة.

ضوابط المقاطعة الهادفة

لضمان نجاح المقاطعة، يجب الالتزام بعدة ضوابط تتعلق بالسياق واللغة الجسدية والتوقيت والنبرة، ومن أبرزها:

1. التوقيت المناسب

اختيار اللحظة المناسبة يعد من أهم عناصر المقاطعة الناجحة. يُفضل الانتظار حتى نهاية فكرة أو جملة معينة، أو عند توقف مؤقت طبيعي في حديث المتكلم. الدخول في منتصف جملة متماسكة أو أثناء تعبير حماسي قد يُفقدك احترام الآخرين.

2. استخدام نبرة صوت هادئة ومهذبة

النبرة الحادة أو المرتفعة تُفهم غالباً كعدوانية أو محاولة لفرض السيطرة. يجب أن تكون نبرة الصوت مرنة وودية، تظهر الاحترام دون أن تقلل من وضوحك أو ثقتك بنفسك.

3. تقديم عبارات تمهيدية

استخدام عبارات مثل “أعذرني على المقاطعة ولكن…” أو “اسمح لي فقط أن أوضح نقطة مهمة…” يهيّئ المتحدث لتقبّل المقاطعة ويعطيها مشروعية أدبية. هذه العبارات تُستخدم كجسر إنساني بينك وبين المتحدث، وتعزز روح الاحترام.

4. الانتباه إلى لغة الجسد

الاتصال البصري المعتدل، وتحريك اليدين بطريقة غير هجومية، والجلوس بوضعية منفتحة تُساهم في جعل المقاطعة أكثر قبولاً. تجنب الإيماءات الحادة أو المقاطعة وأنت تنظر بعيداً.

5. مراعاة ثقافة المتلقي

ما يُعدّ مقبولاً في ثقافة معينة قد يُعتبر وقاحة في ثقافة أخرى. لذلك، معرفة الخلفية الثقافية للطرف الآخر يسهل كثيراً من عملية المقاطعة. في بعض المجتمعات، يُنظر إلى المقاطعة مهما كانت لبقة على أنها تعدٍّ، بينما تُعتبر في مجتمعات أخرى جزءاً من الحوار الحيّ.

مواقف تستدعي المقاطعة الهادفة

ليست كل المواقف مناسبة للمقاطعة، ولكن هناك مواقف محددة تُصبح فيها المقاطعة واجبة منطقياً وأخلاقياً:

المقاطعة في السياقات المهنية والتعليمية

في بيئة العمل، قد تكون الاجتماعات مزدحمة بالمداخلات والتقارير، مما يستدعي تدخلاً منظماً. في هذه الحالات، يُستحسن للمقاطِع أن يربط تدخله بأهداف الاجتماع، كأن يقول: “أعتقد أن هذه النقطة ستفيدنا أكثر إذا ربطناها بهدف الاجتماع الثالث”. أما في البيئة التعليمية، فيُفضل أن تتم المقاطعة من قبل المدرّس أو الطالب بأسلوب يستدعي التوضيح لا التحدي، كأن يقول الطالب: “عذراً، فقط أريد التأكد من فهم النقطة الأخيرة بشكل صحيح”.

مقاطعة الحديث في الإعلام والنقاشات العامة

في البرامج الحوارية أو المناظرات، المقاطعة سيف ذو حدّين. قد تُستخدم لإبراز فكرة أو الرد السريع على مغالطة، لكنها أيضاً قد تتحول إلى فوضى لفظية تُربك المشاهد وتُضعف الرسالة. لذلك، يُنصح الإعلاميون باعتماد “المقاطعة المحسوبة”، أي تلك التي تخدم وضوح الفكرة وتعزز الحيادية المهنية.

في هذا السياق، يجب على مدير الجلسة أن يكون قادراً على التحكم في مجريات النقاش، وإعطاء كل طرف الوقت الكافي، والتدخل عند الحاجة لفرض توازن. وهذا يعكس أن المقاطعة ليست مسؤولية فردية فقط، بل تنظيمية أيضاً.

أخطاء شائعة يجب تجنبها

رغم حسن النية، قد يقع بعض الأشخاص في أخطاء تفقد المقاطعة معناها الإيجابي، ومنها:

• مقاطعة بدافع الظهور أو إثبات الذات: هذا النوع يُفسد الحوار ويخلق توتراً بين الأطراف.

• الاستهانة بكلام الآخر أثناء المقاطعة: استخدام عبارات تقليلية مثل “هذا غير مهم” يُضعف الثقة ويؤثر سلباً على جودة الحوار.

• تكرار المقاطعة بشكل مبالغ فيه: حتى المقاطعة الهادفة تصبح مزعجة إذا تم استخدامها بكثرة.

• إبداء رأي شخصي دون ربطه بسياق الحديث: التدخل غير المرتبط بالسياق يبدو مشتتاً ومربكاً.

المقاطعة كأسلوب لبناء الحوار وليس هدمه

حين تُستخدم المقاطعة في إطارها الصحيح، تتحول من سلوك دفاعي إلى أداة تواصلية بناءة. ويجب أن يُنظر إليها على أنها جزء من عملية ديناميكية لإدارة الأفكار وليست صراعاً بين الآراء. كما أن المهارة الحقيقية تكمن في القدرة على معرفة متى وكيف ولماذا تتم المقاطعة، وليس فقط في القدرة على التحدث.

علاقة المقاطعة بالذكاء العاطفي والاجتماعي

المقاطعة الفعالة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالذكاء العاطفي والاجتماعي. الشخص القادر على قراءة مشاعر الآخرين وتوقع ردود أفعالهم ينجح أكثر في اختيار اللحظة والطريقة المناسبتين. كما أن التمتع بمرونة التفكير والانفتاح المعرفي يسمح له بإدراك متى يكون الاستماع أفضل من الحديث، والعكس.

تطوير مهارة المقاطعة الهادفة

يمكن لأي شخص تطوير هذه المهارة من خلال:

• التدريب على الإنصات الفعّال، لفهم السياق الحقيقي للكلام.

• ممارسة التحدث أمام الآخرين، لتعزيز الثقة وضبط الانفعالات.

• تقمص دور الوسيط في النقاشات العائلية أو المهنية، مما يمنح القدرة على تنظيم الحوار.

• تحليل نماذج حوارية في وسائل الإعلام وتقييم سلوكيات المقاطعة فيها.

خاتمة

إن إتقان فن مقاطعة الحديث بطريقة هادفة لا يُعدّ ترفاً تواصلياً، بل ضرورة ملحّة في عصر يتسم بتعدد وجهات النظر وسرعة التفاعل. فهذه المهارة تمكّن الفرد من المشاركة بفعالية في النقاشات دون المساس بحقوق الآخرين في التعبير، وتُسهم في بناء بيئة حوارية قائمة على الاحترام والتوازن. وعندما تُمارَس المقاطعة بنضج ووعي، فإنها تُعزز جودة التواصل الإنساني وتخلق فضاءً تفاعلياً صحياً يُثري الأفكار ويُقرّب بين العقول.

المراجع:

• Goleman, Daniel. Emotional Intelligence. Bantam, 1995.

• Carnegie, Dale. The Art of Public Speaking. Simon & Schuster, 2006.