لمَ علينا الكف عن الاعتماد على نموذج جرو (GROW) في الكوتشينغ؟
في السنوات الأخيرة، أصبح نموذج جرو (GROW) أحد الأدوات الأكثر شيوعًا في عالم الكوتشينغ (التوجيه المهني والشخصي). تم تطوير هذا النموذج في أواخر السبعينات بواسطة ألكسندر جراينجر، وهو نموذج يساعد الأفراد على تحديد أهدافهم وتخطيط الطرق لتحقيقها. يعتمد النموذج على أربع مراحل رئيسية هي: الهدف (Goal)، الواقع (Reality)، الخيارات (Options)، والإرادة (Will). في هذا النموذج، يتم التركيز على التفكير المنظم والذي يساعد المتدرب على تحسين الأداء واتخاذ قرارات استراتيجية للوصول إلى أهدافه.
ومع ذلك، فإن الاعتماد المستمر على نموذج جرو في الكوتشينغ يمكن أن يكون له بعض العواقب السلبية. بينما يقدم هذا النموذج هيكلًا منطقيًا وبسيطًا، فإنه قد يفتقر إلى المرونة اللازمة للتعامل مع التحديات المتنوعة التي قد يواجهها الأفراد في بيئاتهم الشخصية أو المهنية. لذلك، وفي سياق متغير ومتعدد الأبعاد، قد يكون من الضروري إعادة النظر في الاعتماد المطلق على هذا النموذج، والنظر في بدائل تتماشى مع المتطلبات المعاصرة للكوتشينغ.
1. النموذج لا يعكس التحديات النفسية العميقة
إحدى المشاكل الرئيسية في نموذج جرو تكمن في تركيزه على الأهداف العملية والخطوات التي يجب اتخاذها لتحقيقها، في حين يتجاهل العوامل النفسية الداخلية التي قد تؤثر بشكل كبير على قدرة الأفراد على تحقيق هذه الأهداف. فعلى الرغم من أن النموذج يشمل تحديد الأهداف ووضع الخطط، إلا أنه لا يتعامل بشكل مباشر مع المشاعر والمعتقدات التي قد تحد من قدرة الشخص على اتخاذ قرارات حاسمة أو على التفوق في المجالات التي يتبع فيها النموذج.
فعلى سبيل المثال، قد يعاني الأفراد من القلق أو الخوف من الفشل أو عدم كفاية الثقة بالنفس، وهي تحديات نفسية يمكن أن تؤثر بشكل جذري على التقدم في تحقيق الأهداف. في مثل هذه الحالات، يكون من الضروري التركيز على بناء الصحة النفسية وتعزيز المرونة العاطفية، وهو أمر لا يوفره نموذج جرو بشكل كافٍ.
2. الإفراط في تبسيط العمليات المعقدة
من الواضح أن نموذج جرو يعرض العمليات الفردية بشكل مبسط للغاية. في الحياة الحقيقية، قد تكون المشاكل أكثر تعقيدًا من مجرد تحديد هدف، فهم الواقع المحيط، اختيار بعض الخيارات، والالتزام بالإرادة. الواقع يشير إلى أن العديد من الأفراد يواجهون مواقف معقدة تتطلب تحليلات أعمق وفهمًا متعدد الأبعاد. قد تكون الخيارات المطروحة غير واضحة، وقد تتداخل العقبات النفسية، الاجتماعية، والاقتصادية في هذه العملية.
إن تبسيط المراحل إلى هذا الحد قد يعوق القدرة على التفاعل مع التحديات المتنوعة بمرونة. في الواقع، يتطلب الكوتشينغ المعاصر أكثر من مجرد الإرشاد نحو الأهداف بطرق منظمة. يفرض السياق الذي نعيش فيه اليوم متطلبات أكبر للمرونة والقدرة على التكيف مع التغيرات المستمرة.
3. التركيز على الأداء الفردي دون الاعتراف بالبعد الجماعي
أحد القيود الأخرى التي يعاني منها نموذج جرو هو تركزه على الأداء الفردي. في الكثير من الحالات، سواء في بيئات العمل أو الحياة الشخصية، يتطلب النجاح تعاونًا جماعيًا وتنسيقًا بين الأفراد. يؤدي التركيز على الأهداف الشخصية فقط إلى إغفال تأثير السياقات الاجتماعية والثقافية التي يمكن أن تشكل عائقًا أو توفر فرصًا جديدة.
في ظل الواقع المعاصر، قد يتطلب النجاح في العديد من الأدوار قدرة على التعاون والعمل الجماعي، وهو ما قد لا يتم تناوله بشكل كافٍ في نموذج جرو. لذلك، فإن تجاهل العلاقات التفاعلية والعوامل الاجتماعية قد يعيق الأداء الفعال للأفراد في سياقات عمل جماعي أو مجتمعي.
4. الركيزة المفرطة على النتائج الملموسة
بينما يشجع نموذج جرو الأفراد على تحديد الأهداف وتحقيقها، فإنه يركز بشكل رئيسي على النتائج الملموسة. هذا يعني أن النجاح غالبًا ما يُقاس من خلال الإنجازات الظاهرة مثل الترقيات الوظيفية أو الحصول على زيادة في الدخل. لكن في الحياة الحقيقية، هناك العديد من العوامل التي قد تكون أكثر أهمية من مجرد النتائج الملموسة، مثل تطوير المهارات الشخصية، تحسين العلاقات الاجتماعية، أو تعزيز الصحة النفسية.
هذا التوجه نحو الأهداف الملموسة قد يؤدي إلى الشعور بالإحباط في حال تعثر الأفراد في تحقيق أهدافهم بشكل سريع أو في حال لم تتسارع النتائج بالوتيرة التي يتوقعونها. في الواقع، يتطلب العديد من التحديات وقتًا طويلًا للتطور، وهو ما يجعل التركيز على “الرحلة” أكثر أهمية من التركيز على الهدف النهائي بحد ذاته.
5. عدم التكيف مع المتغيرات المستمرة في العالم المعاصر
في عالم سريع التغير، سواء على المستوى التكنولوجي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، يصبح من الضروري أن تكون طرق الكوتشينغ أكثر مرونة وقادرة على التكيف مع المتغيرات. بينما يوفر نموذج جرو بعض الهيكلية، إلا أنه قد لا يكون مرنًا بما يكفي للتعامل مع التغيرات السريعة في بيئات العمل أو الحياة الشخصية.
على سبيل المثال، في حال حدوث أزمات مفاجئة أو تغييرات في الظروف، قد يجد الأفراد صعوبة في التكيف مع هذا النموذج الثابت، وهو ما قد يعيق قدرتهم على إيجاد حلول مبتكرة أو فعالة. بدلاً من الاعتماد على إطار ثابت، قد يحتاج الأفراد إلى أدوات وأطر أكثر تنوعًا تساعدهم في التفاعل بشكل ديناميكي مع التغيرات المتسارعة.
6. الافتقار إلى الجانب الإبداعي والابتكاري
قد يفتقر نموذج جرو إلى التشجيع على التفكير الإبداعي والابتكاري. عندما يكون التركيز الأساسي على إيجاد خيارات قابلة للتطبيق وتحقيق الأهداف في إطار زمني محدد، قد ينشأ ضغط كبير على الفرد لتقديم حلول سريعة ومعقولة، مما يقلل من القدرة على التفكير خارج الصندوق.
إن الابتكار يتطلب عادةً بيئة داعمة للإبداع، وهذا لا يتم دائمًا من خلال مقاربة هيكلية ضيقة كما في نموذج جرو. بينما يمكن لهذا النموذج أن يساعد في تحديد اتجاهات معينة، إلا أنه لا يتعامل بشكل كافٍ مع الأساليب التي تشجع التفكير الابتكاري غير التقليدي.
7. تأثيره المحدود في الكوتشينغ العاطفي والإنساني
يجب أن نتذكر أن الكوتشينغ ليس مجرد عملية توجيه للأداء المهني أو تحقيق الأهداف. في الكثير من الأحيان، يتطلب العمل مع الأفراد مراعاة أبعادهم العاطفية والإنسانية. لا يقتصر الكوتشينغ الفعال على مساعدة الأشخاص في تحقيق أهدافهم المهنية أو الشخصية فقط، بل يشمل أيضًا التعامل مع قضايا مثل التوتر النفسي، التوازن بين الحياة الشخصية والعمل، والصراعات الداخلية.
بينما قد يقدم نموذج جرو حلولًا عملية لتحقيق الأهداف، فإنه قد يغفل التعامل مع القضايا العاطفية الأعمق التي تؤثر في حياة الأفراد بشكل غير مباشر. يحتاج الأفراد في بعض الأحيان إلى الدعم العاطفي والإنساني لمواجهة التحديات النفسية التي قد تعيق تقدمهم.
8. الحاجة إلى نموذج أكثر تكاملًا ومرونة
في عالم الكوتشينغ اليوم، هناك حاجة ملحة إلى نماذج أكثر تكاملًا ومرونة، والتي تتضمن جوانب مختلفة من الحياة البشرية. يتطلب الكوتشينغ المعاصر أن يتعامل المدربون مع الأبعاد النفسية والاجتماعية والثقافية للأفراد، بالإضافة إلى الأبعاد العملية.
قد تشمل هذه النماذج المرنة تقنيات تساعد في بناء الثقة بالنفس، تطوير مهارات التفكير النقدي، تعزيز القدرة على التكيف مع التحديات الجديدة، وتحفيز الأفراد على التفكير بشكل إبداعي. لذا، من المهم البحث عن أطر عمل جديدة تتجاوز الحدود التي يضعها نموذج جرو.
خاتمة
على الرغم من أن نموذج جرو قد كان له دور محوري في تاريخ الكوتشينغ، إلا أن الاعتماد عليه بشكل حصري يمكن أن يكون قيدًا في وجه التحديات المتزايدة التي يواجهها الأفراد في العصر الحديث. مع الحاجة المتزايدة إلى حلول أكثر تكاملًا ومرونة، أصبح من الضروري البحث عن نماذج جديدة وأكثر شمولية يمكن أن تستوعب التحديات النفسية والاجتماعية والفكرية المعقدة.
