تأثير التدخين على الخصوبة

العقم والتدخين: العلاقة الخفية بين السموم وفقدان الخصوبة

يُعد التدخين أحد أخطر العوامل البيئية التي تؤثر على الصحة العامة للإنسان، ليس فقط من حيث أمراض القلب والرئة والسرطان، بل أيضًا لما له من تأثيرات عميقة وخفية على الصحة الإنجابية والخصوبة لدى الجنسين. تشير الأدلة العلمية المتراكمة إلى وجود علاقة سببية بين التدخين والإصابة بالعقم، سواء لدى الرجال أو النساء، حيث تتداخل المواد السامة الناتجة عن احتراق التبغ مع الوظائف الحيوية للأنسجة والغدد التناسلية، مما ينعكس سلبًا على القدرة الإنجابية.

تتجاوز هذه العلاقة الأضرار المؤقتة إلى التأثيرات التراكمية والدائمة التي قد تؤدي إلى العقم الكامل أو انخفاض فرص النجاح في الحمل الطبيعي، بل وحتى فشل تقنيات المساعدة على الإنجاب مثل التلقيح الصناعي. هذا المقال يستعرض بتفصيل علمي شامل كيف يؤثر التدخين على خصوبة الذكور والإناث، والآليات البيولوجية التي تفسر ذلك، إضافة إلى نتائج الدراسات الحديثة والتوصيات العالمية ذات الصلة.

التأثيرات العامة للتدخين على الجسم والهرمونات

التدخين يحتوي على أكثر من 7000 مادة كيميائية، منها ما لا يقل عن 60 مادة ثبت أنها مسرطنة وسامة للأنسجة. ومن أبرز هذه المواد: النيكوتين، أول أكسيد الكربون، البنزين، والسيانيد. هذه المركبات تُخلّ بتوازن الجسم الهرموني، وتؤثر على وظائف الغدة النخامية، والغدة الدرقية، والمبايض والخصيتين.

النيكوتين، كمادة منبهة، يغير من إفراز الهرمونات الجنسية (مثل الإستروجين، التستوستيرون، والبروجسترون)، ويُضعف استجابة الأنسجة لهذه الهرمونات، مما ينعكس سلبًا على الدورة الشهرية عند النساء، وجودة الحيوانات المنوية عند الرجال.

تأثير التدخين على الخصوبة عند النساء

اضطراب الدورة الشهرية والإباضة

تشير الدراسات إلى أن النساء المدخنات يعانين من خلل أكبر في انتظام الدورة الشهرية مقارنة بغير المدخنات. يعود ذلك إلى أن النيكوتين ومشتقاته تؤثر على محور تحت المهاد-الغدة النخامية-المبيض، مما يخل بتوازن الهرمونات التناسلية. كما أن التدخين يرتبط بتراجع نسبة حدوث الإباضة الطبيعية، ويؤدي إلى قصور وظيفي في الجسم الأصفر الذي يُنتج هرمون البروجسترون الضروري لتهيئة بطانة الرحم للحمل.

تراجع جودة البويضات واحتياطي المبيض

من أخطر تأثيرات التدخين على النساء هو تسريع التراجع الطبيعي في احتياطي المبيض (عدد وجودة البويضات). أظهرت تحاليل المبايض عند النساء المدخنات وجود خلل في بنية البويضات، مع ارتفاع معدلات الكروموسومات غير السوية، مما يزيد من خطر الإجهاض المبكر والحمل غير السليم.

الشيخوخة المبكرة للمبايض

النساء المدخنات يصلن إلى سن اليأس في وقت أبكر بسنتين تقريبًا مقارنة بغير المدخنات. ويُعتقد أن هذا ناتج عن الإجهاد التأكسدي المزمن الذي يسببه التدخين على أنسجة المبيض، مما يؤدي إلى نضوب مخزون البويضات بشكل أسرع.

ضعف انغراس البويضة المخصبة

يؤثر التدخين سلبًا على بطانة الرحم من حيث سماكتها واستعدادها لاستقبال البويضة المخصبة. كما تؤدي مركبات التدخين إلى تغيرات التهابية داخل الرحم تعيق عملية الانغراس، وتزيد من فرص فشل الحمل أو الإجهاض.

تأثير التدخين على الخصوبة عند الرجال

انخفاض عدد الحيوانات المنوية

تشير العديد من الدراسات إلى أن الرجال المدخنين يعانون من انخفاض واضح في عدد الحيوانات المنوية مقارنة بغير المدخنين. وتُظهر تحاليل السائل المنوي لديهم معدلات أقل في الكثافة، والحركة، والشكل الطبيعي.

تشوهات في شكل الحيوان المنوي

يؤدي التعرض المزمن للنيكوتين والمواد السامة إلى تغيرات في شكل الحيوان المنوي، مما يعيق قدرته على اختراق البويضة. وتُعد هذه التشوهات من أسباب العقم الذكري غير المُفسّر.

تلف الحمض النووي للحيوانات المنوية

يُظهر تحليل الحمض النووي للحيوانات المنوية لدى المدخنين نسبًا مرتفعة من التجزئة والانكسار في الـDNA، وهو ما يقلل من احتمال حدوث حمل طبيعي أو حمل سليم. وقد يؤدي هذا الخلل الجيني إلى تكون أجنّة غير قابلة للحياة أو ذات تشوهات.

اضطراب في هرمونات الذكورة

يرتبط التدخين بانخفاض مستويات هرمون التستوستيرون في الدم، وهو هرمون أساسي لتنظيم الرغبة الجنسية، ونمو الحيوانات المنوية، والحفاظ على الأداء الجنسي. كما يمكن أن يؤدي إلى مشاكل في الانتصاب نتيجة التأثير على الأوعية الدموية الدقيقة في القضيب.

التدخين والعقم غير القابل للعلاج

في بعض الحالات، يُسبب التدخين ضررًا دائمًا يصعب علاجه حتى بعد الإقلاع عنه، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بتلف الأنسجة التناسلية أو الاحتياطي المحدود للمبيض. لذلك فإن الوقاية عبر التوقف المبكر عن التدخين تُعد إجراءً حاسمًا لتجنب الوصول إلى حالة العقم النهائي.

تأثير التدخين السلبي على الخصوبة

من اللافت أن التدخين لا يضر فقط المدخن نفسه، بل يؤثر أيضًا على الخصوبة لدى من يتعرضون لدخان السجائر بشكل غير مباشر. فقد أظهرت الأبحاث أن النساء المعرضات للتدخين السلبي يعانين من انخفاض معدلات الحمل وارتفاع معدلات الإجهاض مقارنة بغير المعرضات، حتى دون تدخين فعلي.

التدخين والتقنيات المساعدة على الإنجاب

انخفاض نسب نجاح أطفال الأنابيب

تُظهر الأبحاث انخفاض معدلات النجاح في عمليات التلقيح الصناعي (IVF) لدى المدخنات والمدخنين. وهذا يعود إلى ضعف نوعية البويضات والحيوانات المنوية، وتراجع قدرة الرحم على احتضان الأجنّة. كما أن معدل الإجهاض بعد الزرع يكون أعلى لدى الأزواج المدخنين.

الحاجة إلى جرعات أعلى من الهرمونات

النساء المدخنات في برامج التحفيز الهرموني أثناء التلقيح الصناعي يحتجن إلى جرعات أعلى لتحقيق الاستجابة المبيضية المطلوبة، مما يرفع من تكلفة العلاج ويزيد من مضاعفاته المحتملة.

الجدول التالي يوضح التأثيرات النوعية للتدخين على الخصوبة لدى الجنسين:

الدلائل العلمية والإحصائية

أظهرت دراسة نُشرت في مجلة Human Reproduction أن النساء المدخنات يحتجن إلى وقت أطول للحمل بنسبة تصل إلى 60% مقارنة بغير المدخنات. كما توصلت دراسة أخرى في Fertility and Sterility إلى أن الرجال المدخنين لديهم خطر أعلى بنسبة 30% لحدوث عقم غير مفسر مقارنة بغير المدخنين.

توصي الجمعية الأمريكية للطب التناسلي (ASRM) والجمعية الأوروبية للطب التناسلي وعلم الأجنة (ESHRE) بالإقلاع التام عن التدخين قبل البدء بأي محاولة للحمل أو أي علاج يتعلق بالخصوبة، سواء من خلال تقنيات صناعية أو طبيعية.

التأثيرات الجينية وعبر الأجيال

لا تقتصر آثار التدخين على الشخص ذاته، بل تتعداه إلى التأثير على النسل. فقد بيّنت الدراسات أن تلف الحمض النووي الناتج عن التدخين يمكن أن يُنقل إلى الأجنّة، مما يزيد من خطر التشوهات الخلقية والاضطرابات الوراثية. كما يُعتقد أن الإناث اللواتي كانت أمهاتهن مدخنات أثناء الحمل لديهن خطر أعلى للإصابة بالعقم في مرحلة البلوغ.

التدخين والإجهاض والحمل خارج الرحم

يرتبط التدخين بارتفاع ملحوظ في نسب حدوث الحمل خارج الرحم (الحمل الأنبوبي)، وذلك بسبب الأثر الضار على الأهداب المبطنة لقنوات فالوب والتي تُسهم في دفع البويضة نحو الرحم. كما أن التدخين يزيد من خطر الإجهاض العفوي في الأشهر الأولى للحمل بنسبة تصل إلى 40% مقارنة بغير المدخنات.

الإقلاع عن التدخين وتحسن الخصوبة

تشير الدراسات إلى أن التوقف عن التدخين يؤدي إلى تحسن تدريجي في مؤشرات الخصوبة خلال فترة تتراوح بين 3 إلى 12 شهرًا. ويزداد هذا التحسن مع نمط حياة صحي متكامل يشمل التغذية السليمة، الرياضة، وتجنب العوامل البيئية السامة.

المراجع

1. Practice Committee of the American Society for Reproductive Medicine. (2018). Smoking and infertility: a committee opinion. Fertility and Sterility.

2. Augood, C., Duckitt, K., & Templeton, A. A. (1998). Smoking and female infertility: a systematic review and meta-analysis. Human Reproduction.