إذا كان نقص السيروتونين لا يسبب الاكتئاب، فما هو السبب الحقيقي؟

تحليل علمي شامل لفهم أعمق لأسباب الاكتئاب

على مدار عقود طويلة، رُوّج لفرضية أن الاكتئاب يحدث نتيجة “اختلال كيميائي” في الدماغ، وخصوصاً نقص السيروتونين، باعتبار هذا الناقل العصبي محورياً في تنظيم المزاج. إلا أن التقدم في الأبحاث العصبية والنفسية كشف أن هذه الفرضية مبسطة بشكل مفرط، بل إن العديد من العلماء اليوم يعتبرون أن ربط الاكتئاب بنقص السيروتونين وحده يمثل اختزالاً غير دقيق ومعيق لفهم الحالة المعقدة التي تُعد واحدة من أكثر الاضطرابات النفسية انتشاراً في العالم.

هذا المقال الموسع يقدم قراءة علمية شاملة حول الأسباب الحقيقية للاكتئاب، بعيداً عن تبسيط الأسباب في خلل كيميائي واحد، مع التركيز على العوامل النفسية، والاجتماعية، والوراثية، والبيئية، والبيولوجية المعقدة التي تتفاعل لتنتج أعراض الاكتئاب.

أولاً: السياق التاريخي لفرضية السيروتونين

ظهرت فرضية “نقص السيروتونين يسبب الاكتئاب” في منتصف القرن العشرين بعد أن لاحظ العلماء أن بعض الأدوية التي تؤثر على مستويات السيروتونين مثل مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية (SSRIs) تؤدي إلى تحسن مزاج بعض المرضى. ورغم أن تلك الأدوية لم تكن فعالة عند الجميع، فقد دعّمت الشركات الدوائية هذه الفرضية لتسويق علاجاتها.

لكن الأبحاث التي بدأت في الظهور منذ أوائل الألفية الثالثة، خصوصاً الدراسات الأيضية والتصوير العصبي، بدأت تُظهر أن العلاقة بين السيروتونين والاكتئاب ليست بهذه البساطة، وأن الناس المصابين بالاكتئاب لا يعانون بالضرورة من نقص في السيروتونين.

في عام 2022، نشرت المجلة الطبية Molecular Psychiatry مراجعة منهجية كبيرة لعدد من الدراسات خلصت إلى عدم وجود دليل حاسم على أن الاكتئاب ناتج عن انخفاض في مستويات السيروتونين. بل أكدت المراجعة أن الأدلة المتاحة لا تدعم فكرة أن الاكتئاب سببه الرئيسي اختلال كيميائي في الدماغ.

ثانياً: الأسباب متعددة الأبعاد للاكتئاب

1. العوامل الوراثية والبيولوجية

الاستعداد الوراثي للاكتئاب موثق علمياً. تشير الدراسات إلى أن خطر الإصابة بالاكتئاب يرتفع بشكل واضح عند الأشخاص الذين لديهم تاريخ عائلي مع المرض. وقد حددت دراسات الجينوم بعض التغيرات الجينية المرتبطة بزيادة القابلية للاكتئاب، خصوصاً تلك المرتبطة بنواقل عصبية أو مستقبلات معينة، مثل مستقبلات الدوبامين والنورأدرينالين.

لكن الجينات وحدها لا تحدد الإصابة، فهي ترتبط بالاحتمالية فقط، وتتفاعل مع الظروف البيئية والتجارب الحياتية لتشكيل استجابة الفرد النفسية والعصبية.

2. الضغوط النفسية المزمنة والتجارب المؤلمة

يُعتبر التعرض للضغوط النفسية المزمنة أو التجارب المؤلمة في مراحل مبكرة من الحياة، مثل الإهمال أو العنف الأسري، من أبرز العوامل المسببة للاكتئاب. هذه التجارب تؤثر على الدماغ عبر المحور الوطائي النخامي الكظري (HPA axis)، مما يخل بالتوازن الهرموني ويسهم في اضطراب المشاعر.

كما أن الطفولة المحفوفة بالتوتر أو الفقدان أو عدم الأمان العاطفي تؤثر على تطور الدماغ، خصوصاً في المناطق المرتبطة بتنظيم الانفعالات مثل الحُصين (Hippocampus) واللوزة الدماغية (Amygdala)، ما يؤدي إلى حساسية زائدة للتوتر في الحياة البالغة.

3. الاختلال في آليات الاستجابة للتوتر

من العوامل البيولوجية الأخرى المهمة هو اختلال محور الاستجابة للتوتر، الذي يتضمن الغدة الكظرية، والغدة النخامية، وتحت المهاد. في الأشخاص المصابين بالاكتئاب، يلاحظ أن هذا المحور يعمل بشكل مفرط، ما يؤدي إلى إفراز مفرط لهرمون الكورتيزول، وهو هرمون التوتر، والذي بدوره يؤثر على الذاكرة، والمرونة العصبية، والمزاج.

كما تبين أن الكورتيزول المرتفع يؤثر سلباً على تكوين خلايا دماغية جديدة في الحُصين، ما يفسر جزئياً شعور فقدان الأمل والركود العقلي المرتبط بالاكتئاب.

4. العوامل الاجتماعية والبيئية

الانعزال الاجتماعي، الفقر، البطالة، التمييز، والصدمات الاجتماعية مثل الحروب أو الكوارث، كلها عوامل تلعب دوراً محورياً في ظهور الاكتئاب أو تفاقمه. فالعزلة ونقص الدعم الاجتماعي من أقوى المؤشرات على ضعف الصحة النفسية، في حين أن الانتماء والتواصل الإنساني يوفران حماية عاطفية قوية.

5. الاعتلالات النفسية المصاحبة

غالباً ما يكون الاكتئاب مترافقاً مع اضطرابات نفسية أخرى، مثل القلق، اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، أو اضطرابات الأكل. هذا التداخل يُعقد فهم السبب الواحد، ويؤكد أن الاكتئاب ليس حالة معزولة بل عرض لمجموعة من الاختلالات النفسية والمعرفية.

ثالثاً: دور الالتهابات والجهاز المناعي

بدأت العديد من الدراسات الحديثة تُشير إلى وجود علاقة بين الالتهاب المزمن والاكتئاب. فقد تم رصد مستويات مرتفعة من علامات الالتهاب (مثل البروتين التفاعلي-C أو السيتوكينات الالتهابية) في دم بعض المرضى المصابين بالاكتئاب.

يُعتقد أن هذه الالتهابات تؤثر على الدماغ عبر آليات متعددة، منها تقليل إنتاج النواقل العصبية أو التأثير على مستقبلاتها، أو تعطيل التوازن بين خلايا الدماغ. كما أنها تؤثر على الحاجز الدموي الدماغي وتسبب ما يُعرف بـ “الضباب العقلي”.

هذا التوجه يفتح الباب لفهم الاكتئاب كاضطراب نظامي يشمل الجهاز العصبي والمناعي معاً، وليس فقط اختلالاً في كيمياء الدماغ.

رابعاً: النموذج المعرفي والسلوكي للاكتئاب

من زاوية علم النفس المعرفي، يُعتبر الاكتئاب ناتجاً عن أنماط تفكير مشوهة وسلبية يطورها الفرد تجاه ذاته والعالم والمستقبل. هذه الأفكار تؤدي إلى انخفاض التقدير الذاتي، والانطواء، والخمول، وهي كلها خصائص سلوكية تعزز من شدة الاكتئاب.

وقد أظهرت العلاجات المعرفية السلوكية (CBT) فعالية كبيرة في معالجة الاكتئاب، بما يفوق فعالية الأدوية في بعض الحالات، خصوصاً إذا كان الاكتئاب متوسطاً. وهذا يُعد دليلاً قوياً على أن التفكير السلبي وليس فقط الكيمياء الدماغية، يلعب دوراً حاسماً في تطور الاكتئاب.

خامساً: دور البلاستيك العصبي

الاكتئاب يُنظر إليه اليوم على أنه اضطراب في المرونة العصبية، أي قدرة الدماغ على التكيف والتجدد. فالدراسات تشير إلى أن الاكتئاب يُصاحبه تراجع في تكوين المشابك العصبية وفي النمو العصبي داخل مناطق مثل القشرة الجبهية والحصين.

وقد أظهرت أدوية حديثة مثل الـكيتامين، والتي تعمل بآلية مختلفة عن مضادات الاكتئاب التقليدية، نتائج سريعة في التخفيف من أعراض الاكتئاب، ويُعتقد أن السر يكمن في قدرتها على تحفيز النمو العصبي وزيادة المرونة العصبية.

وهذا يدعم فرضية أن الاكتئاب هو اضطراب في التوصيل والتفاعل العصبي داخل الدماغ، أكثر من كونه خللاً في كمية ناقل معين.

سادساً: السياق الثقافي والشخصي

لا يمكن تجاهل السياق الثقافي والديني والقيمي للفرد عند الحديث عن الاكتئاب. فالمعتقدات المتعلقة بالذات والقدر والنجاح والفشل تتدخل بعمق في كيفية تفسير الفرد لتجاربه. وقد وجدت دراسات متعددة أن المعايير الثقافية يمكن أن تزيد أو تخفف من تأثير العوامل الأخرى.

فمثلاً، المجتمعات التي تهمش الصحة النفسية وتعتبر الحديث عنها ضعفاً أو “عيباً” قد تسهم في كبت المشاعر وغياب الدعم، ما يؤدي إلى تفاقم الحالة.

جدول توضيحي لأبرز العوامل المسببة للاكتئاب

خلاصة: الاكتئاب أكثر تعقيداً من مجرد “نقص السيروتونين”

لم يعد المجتمع العلمي يعتبر أن الاكتئاب سببه ببساطة نقص في السيروتونين، بل هو نتاج تفاعل معقد بين عوامل بيولوجية، نفسية، اجتماعية، وبيئية. كما أن علاجه يتطلب فهم الشخص كوحدة متكاملة وليس فقط كدماغ يعاني من نقص كيميائي.

هذا التطور في الفهم لا يعني التخلي عن الأدوية، بل إعادة تقييم دورها في إطار خطة علاج شاملة تشمل العلاج النفسي، الدعم الاجتماعي، التغيرات السلوكية، وحتى معالجة الالتهابات في بعض الحالات.

تبني هذا المنظور الشامل هو الخطوة الأولى لفهم الاكتئاب بدقة، وعلاجه بفعالية، وإعادة الاعتبار لملايين الأشخاص الذين يعانون منه دون اختزال تجربتهم في مجرد “اختلال كيميائي”.

المراجع:

1. Joanna Moncrieff et al., “The serotonin theory of depression: a systematic umbrella review of the evidence”, Molecular Psychiatry, 2022.

2. Nestler EJ et al., “Neurobiology of depression”, Neuron, 2002.