تعريب قيادة الجيش الأردني

مفهوم تعريب قيادة الجيش العربي: قراءة تاريخية تحليلية في أبعاد القرار وأثره

في منتصف القرن العشرين، كانت المنطقة العربية على مفترق طرق تاريخي، إذ بدأت معظم الدول العربية بالخروج من عباءة الاستعمار الأوروبي، تبحث عن الاستقلال الكامل سياسيًا، واقتصاديًا، وعسكريًا. في هذا السياق، برز قرار “تعريب قيادة الجيش العربي” كأحد أبرز القرارات المصيرية التي اتخذتها القيادة الأردنية، ممثلةً بالملك الراحل الحسين بن طلال، في إطار سعيها إلى ترسيخ السيادة الوطنية وبناء جيش وطني خالص الولاء للدولة ومصالحها العليا.

يُعد مفهوم “تعريب قيادة الجيش العربي” من أكثر المفاهيم ارتباطًا بالتحول من التبعية إلى الاستقلال الفعلي، ليس فقط في النطاق العسكري، بل في جميع أبعاد بناء الدولة. ويتجسد هذا المفهوم في قرار إنهاء خدمات القيادات البريطانية في الجيش العربي الأردني وتعيين قيادات أردنية عربية في مواقع صنع القرار العسكري.

الخلفية التاريخية للجيش العربي

تأسس الجيش العربي الأردني في بدايات عشرينيات القرن العشرين تحت إشراف مباشر من الضباط البريطانيين، في مقدمتهم الجنرال جون باغوت غلوب، المعروف باسم “غلوب باشا”، والذي تولى قيادة الجيش العربي من عام 1939 حتى عام 1956. كان الجيش العربي من أوائل الجيوش النظامية في المنطقة، وتميّز بتماسكه وانضباطه وفاعليته، وشارك في العديد من المعارك، أبرزها معارك فلسطين عام 1948، حيث أثبت كفاءة قتالية عالية.

لكن بالرغم من هذه الكفاءة، بقيت القيادة العليا للجيش العربي في يد الضباط البريطانيين، ما أثار جدلاً واسعًا حول مدى استقلالية القرار العسكري الأردني، وإمكانية الجيش في خوض معارك تخدم مصالح الدولة الأردنية والعربية دون تدخل أجنبي.

مفهوم تعريب القيادة: تحليل المصطلح

تعريب قيادة الجيش هو مصطلح سياسي عسكري يشير إلى إحلال الضباط والقيادات العسكرية العرب محل القيادات الأجنبية (في هذه الحالة البريطانية)، لتولي المهام القيادية العليا داخل المؤسسة العسكرية. هذا التعريب لا يقتصر على تغيير الأشخاص فقط، بل يمتد ليشمل:

• تعريب العقيدة العسكرية بحيث تتماشى مع ثقافة المجتمع العربي وخصوصياته.

• تعريب الهيكل التنظيمي والتخلص من النظم العسكرية المفروضة من الخارج.

• تعريب القرار الاستراتيجي بحيث يصبح نابعًا من القيادة الوطنية دون تبعية سياسية أو عسكرية.

القرار الملكي: إعلان التعريب عام 1956

في الأول من آذار عام 1956، أصدر الملك الحسين بن طلال قراره التاريخي بإنهاء خدمات الجنرال غلوب باشا، إلى جانب عدد من الضباط البريطانيين العاملين في الجيش العربي الأردني. وقد جاء هذا القرار بعد تراكمات سياسية وعسكرية، شملت:

• ازدياد الوعي القومي العربي، ورفض بقاء رموز استعمارية في مراكز سيادية.

• مطالبة ضباط الجيش الأردني والشعب الأردني بتعريب القيادة، أسوة بباقي مؤسسات الدولة.

• تصاعد التوتر بين الإرادة الأردنية المستقلة والضغوط البريطانية للإبقاء على نفوذها العسكري.

• تزايد الإدراك بأن بقاء غلوب باشا على رأس الجيش كان يمثل عائقًا أمام تطوير عقيدة عسكرية وطنية ترتبط بالهوية الأردنية والعربية.

وقد تم تعيين اللواء راضي عناب كأول قائد عربي للجيش بعد القرار، ما شكل نقطة تحول استراتيجية في بنية الدولة الأردنية الحديثة.

ردود الفعل على القرار

محليًا

لاقى قرار التعريب ترحيبًا شعبيًا واسعًا في الأردن، حيث خرجت الجموع في مظاهرات التأييد للملك الشاب، معبّرة عن فخرها بالقرار الجريء. كما سادت حالة من النشوة الوطنية، وشهدت البلاد حالة تعبئة شعبية لتعزيز الثقة بالجيش الوطني.

عربيًا

في الوطن العربي، اعتُبر القرار انتصارًا رمزيًا كبيرًا للتحرر من النفوذ الاستعماري، وجرى الاحتفاء به في الصحف والمنتديات السياسية. وقد حظي بدعم واسع من الدول العربية، التي رأت في الخطوة بداية لانبثاق عهد جديد من الاستقلال الحقيقي.

دوليًا

على الصعيد الدولي، وبخاصة في بريطانيا، أثار القرار صدمة سياسية وأحرج حكومة لندن أمام العالم، خاصةً أن العلاقات البريطانية الأردنية كانت تُعد من أكثر العلاقات الاستعمارية استقرارًا آنذاك. إلا أن الملك الحسين حرص على أن يرافق قراره خطابًا سياسيًا متزنًا أكد فيه أن القرار لا يستهدف العداء لبريطانيا، بل يهدف إلى استكمال استقلال الأردن.

أبعاد القرار ودلالاته الاستراتيجية

إن تعريب قيادة الجيش العربي لم يكن قرارًا عسكريًا فحسب، بل شكّل تحولًا عميقًا في بنية الدولة الأردنية، ومن ثم ترك آثارًا عابرة للحدود، ومن أبرز هذه الأبعاد:

أولًا: السيادة الوطنية الكاملة

أبرز ما مثّله القرار هو استكمال مشروع الاستقلال الوطني، فبقاء القيادة العسكرية في يد الأجانب كان يشكّل ثغرة كبيرة في مفهوم السيادة. ومن خلال التعريب، استعاد الأردن القدرة على اتخاذ القرار الدفاعي والاستراتيجي دون تدخل خارجي.

ثانيًا: إعادة تشكيل العقيدة القتالية

كانت العقيدة العسكرية البريطانية قائمة على نظرة استعمارية، لا تعير اهتمامًا للهوية العربية أو الخصوصية الثقافية. أما بعد التعريب، فقد بدأت القيادة الأردنية بإعادة صياغة برامج التدريب والتعليم العسكري بما يتماشى مع واقع المجتمع الأردني العربي.

ثالثًا: تدعيم الانتماء الوطني داخل المؤسسة العسكرية

أدى تعريب القيادة إلى تعزيز الانتماء الوطني للجنود والضباط، حيث أصبحوا يشعرون بأنهم يعملون في جيش وطني مستقل، يقوده أبناء وطنهم، مما أسهم في رفع الروح المعنوية داخل الجيش وتعزيز الثقة بالقيادة السياسية.

رابعًا: استقلال القرار الأمني الإقليمي

أسهم القرار في تمكين الأردن من اتخاذ قرارات مستقلة على المستوى العربي، وسمح له بلعب أدوار أكثر فاعلية في محيطه، خصوصًا في ظل ازدياد التحديات الإقليمية مثل الصراع العربي الإسرائيلي والنزاعات الحدودية.

مقارنة بين الجيش قبل وبعد التعريب

التحديات التي رافقت مرحلة ما بعد التعريب

رغم النجاح الكبير الذي حققه القرار، إلا أن المرحلة اللاحقة واجهت عدة تحديات كان لا بد من تجاوزها لضمان استدامة القرار، منها:

• نقص الخبرات القيادية العليا، نظرًا لاعتماد الجيش الطويل على الخبرات البريطانية.

• الحاجة لإعادة تأهيل الكوادر الأردنية لتكون قادرة على تولي المسؤوليات الاستراتيجية والتكتيكية.

• المخاطر السياسية الخارجية، خصوصًا من أطراف دولية لم تكن راضية عن التحول في البنية العسكرية الأردنية.

غير أن هذه التحديات لم تعق استمرارية المشروع، بل أسهمت في تكريس الإرادة الوطنية لتطوير المؤسسة العسكرية على أسس علمية واحترافية، ما جعل الجيش العربي الأردني واحدًا من أكثر الجيوش كفاءة واستقرارًا في المنطقة.

الأثر البعيد المدى لتعريب القيادة

إن الأثر الحقيقي لتعريب قيادة الجيش لم يتوقف عند حدود عام 1956، بل امتد ليشكل جزءًا من الوعي السياسي الجمعي في الأردن والمنطقة. فقد أصبح القرار نموذجًا يحتذى في مواجهة النفوذ الأجنبي، ونقطة انطلاق لبناء مؤسسات وطنية مستقلة في قطاعات الأمن والدفاع.

كما عزز القرار الثقة في قدرة القيادة الأردنية على اتخاذ قرارات سيادية حاسمة في لحظات دقيقة من التاريخ، وهو ما ساعد على ترسيخ شرعية الحكم الهاشمي وتعزيز مكانة الأردن في محيطه العربي.

الخلاصة

جاء قرار تعريب قيادة الجيش العربي الأردني في لحظة محورية من تاريخ الدولة الأردنية الحديثة، ليعبّر عن انتقال الدولة من حالة التبعية إلى حالة الاستقلال الفعلي. وقد مهّد هذا القرار لبناء مؤسسة عسكرية عربية راسخة، قائمة على الانتماء الوطني والعقيدة العسكرية المستقلة، وفتح المجال أمام تطور نوعي في بنية الجيش الأردني.

ويمكن اعتبار هذا القرار، الذي جمع بين الجرأة والحكمة، نقطة فارقة في تاريخ الجيوش العربية عامة، ونموذجًا متكاملًا لإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس السيادة والاستقلال الكامل.

المصادر:

1. كتاب “مهنتي كملك” – الملك الحسين بن طلال.

2. أرشيف صحيفة الرأي الأردنية – تغطية قرارات عام 1956.