أطفالنا.. تهذيب لا تعذيب

في قلب كل مجتمع ينبض بالحياة، يشكل الأطفال اللبنة الأساسية لبناء المستقبل، فهم الامتداد الطبيعي لوجودنا وضمان استمرارية حضارتنا. وفي ظل المتغيرات المتسارعة التي يشهدها عالمنا المعاصر، تبقى مسألة تربية الأطفال من أعظم التحديات التي تواجه الأسر والمجتمعات على حد سواء، إذ تتطلب وعياً عميقاً، وعلماً راسخاً، ورؤية شاملة تجمع بين الحزم والرحمة، والانضباط والحنان. غير أن ثمة خلطاً خطيراً لا يزال شائعاً في بعض الأوساط، حيث يتم الخلط بين التهذيب والتعذيب، وبين التأديب والعنف، مما يُحدث أضراراً نفسية وسلوكية وجسدية جسيمة في حياة الطفل، ويهدد توازنه النفسي وتطوره الاجتماعي.

مفهوم التهذيب في التربية

التهذيب، لغةً واصطلاحاً، يشير إلى الترويض على مكارم الأخلاق والسلوك القويم، ويعني بناء شخصية الطفل بصورة متزنة، وتعليمه معاني المسؤولية، والانضباط، والاحترام، وحب الخير للآخرين. والتهذيب لا يعني القمع، ولا يقوم على التهديد، ولا يتوسل الإيذاء، بل هو عملية إنسانية تربوية مستندة إلى الحوار، والقدوة، والتوجيه، والتشجيع، والثواب، وأحياناً العقاب التربوي غير المؤذي، مع مراعاة عمر الطفل وخصائص نموه.

إن الطفل ليس صفحة بيضاء فحسب، بل كيان حي يشعر ويتألم ويفكر ويلاحظ ويتعلم، ومن هنا فإن تهذيبه يستلزم فهماً لاحتياجاته العاطفية والعقلية والجسدية. ويتطلب الأمر من الأهل أن يكونوا على قدر من الوعي يخولهم التفريق بين تصحيح السلوك والتسلط، وبين تقويم الانحراف والتقريع المهين.

التعذيب المقنّع في التربية

للأسف، كثير من الممارسات التي تُمارس في بعض البيوت والمدارس تُصنف ضمن إطار العنف أو التعذيب، حتى وإن لم تكن النية كذلك. فالصراخ المستمر، والإهانة اللفظية، والضرب، والعزل، والحرمان المفرط من الحاجات الأساسية كوسائل للتهذيب، كلها أساليب أثبتت الدراسات الحديثة أنها تسبب آثاراً نفسية مدمرة على الأطفال. وقد أدرجت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” هذه الممارسات ضمن أشكال العنف ضد الأطفال، حتى وإن كانت تتم داخل إطار الأسرة.

ويظن البعض أن الضرب أو العقاب الجسدي الخفيف وسيلة لتقويم السلوك، غير أن الحقائق العلمية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن الأطفال الذين يتعرضون للعنف الجسدي تتولد لديهم مشاعر الحقد والخوف والكراهية، ويصبحون أكثر ميلاً للعنف أو الانطواء، ويتراجع أداؤهم المدرسي، وتنخفض لديهم تقديرات الذات. كما أن العقاب الجسدي لا يعلم الطفل لماذا كان سلوكه خاطئاً، بل يكرس لديه الخوف من العقوبة فقط، دون أن يعزز داخله البوصلة الأخلاقية الذاتية.

الآثار النفسية للعنف في التربية

تشير الأبحاث النفسية إلى أن الأطفال الذين يتعرضون للتعذيب أو العنف في طفولتهم معرضون بنسبة كبيرة للإصابة باضطرابات القلق، والاكتئاب، واضطرابات السلوك، والميل إلى العدوان أو الإجرام لاحقاً. كما أن لديهم ميولاً أعلى للانتحار، وانخفاضاً في الشعور بالأمان والثقة بالنفس، وخللاً في بناء العلاقات الاجتماعية السليمة.

وقد أوضحت دراسات عدة، مثل تلك التي أجريت في “مركز دراسات الطفل والأسرة” في جامعة ميشيغان، أن الأطفال الذين نشؤوا في بيئة تتسم بالعنف اللفظي أو الجسدي يعانون من تغيرات في بنية الدماغ، تؤثر على مناطق تنظيم العاطفة واتخاذ القرار. وهذا ما يفسر تكرار النماذج السلبية في بعض البيئات، إذ أن الطفل المعنَّف غالباً ما ينقل هذا العنف لاحقاً إلى علاقاته الزوجية أو المهنية، أو يعيد إنتاجه مع أطفاله.

التربية الإيجابية: البديل الضروري

التربية الإيجابية لا تعني التدليل المفرط ولا غياب الحدود، بل تقوم على التوجيه بأساليب بناءة، مع احترام شخصية الطفل، وتعزيز سلوكه الإيجابي، والتدرج في تصحيح السلوك غير المرغوب فيه. وتشمل هذه التربية مجموعة من المبادئ التي أثبتت فعاليتها، منها:

• التفاهم والحوار: ينبغي أن يكون الحوار هو الوسيلة الأولى لحل النزاعات، مع الاستماع للطفل وفهم مشاعره ووجهة نظره.

• القدوة الحسنة: يتعلم الطفل أكثر مما يُقال له، لذا فإن الأهل مدعوون لتجسيد القيم التي يرغبون في ترسيخها.

• تعزيز السلوك الإيجابي: بدلاً من التركيز على العقاب، ينبغي مكافأة السلوك الجيد بالتقدير أو كلمات التشجيع أو الامتيازات المناسبة.

• وضع القواعد بوضوح: يجب أن يعرف الطفل ما هو مقبول وما هو مرفوض، مع تفسير الأسباب والمنطق وراء القواعد.

• إتاحة الفرصة للتعلم من الخطأ: يجب تعليم الطفل أن الأخطاء فرصة للنمو وليس للخجل أو الإذلال.

الأسس النفسية للتهذيب السليم

يعتمد التهذيب الناجح على فهم مراحل النمو العقلي والانفعالي للطفل. فالتوقعات التربوية يجب أن تكون مناسبة لعمر الطفل ومدى إدراكه. فالطفل في سنواته الأولى لا يدرك النوايا البعيدة أو معاني المجاز، وإنما يستجيب للحوافز الفورية، ولهذا فإن التربية الفعالة تعتمد على:

• الاستمرارية والثبات: أي أن تكون ردود أفعال المربي ثابتة ومنسجمة، لأن التذبذب يربك الطفل.

• المرونة: تختلف ردود فعل الأطفال تجاه نفس الموقف، ومن المهم أن تراعي الأساليب التربوية الفروق الفردية.

• الإدراك العاطفي: يجب أن يكون المربي قادراً على قراءة مشاعر الطفل والاستجابة لها بدلاً من نفيها أو السخرية منها.

• إدارة الانفعالات: كثير من حالات العنف ضد الأطفال تقع نتيجة فقدان الأهل السيطرة على أعصابهم، ولهذا فإن المربي الواعي يعمل على تهذيب ذاته أولاً.

مقارنة بين التهذيب والتعذيب في التربية

دور البيئة المجتمعية والدولة

التربية ليست مسؤولية الأهل وحدهم، بل هي منظومة متكاملة تتقاطع فيها الأسرة مع المدرسة، والمؤسسات الدينية، والإعلام، والمنظومة القانونية. ومن هنا، فإن دعم التهذيب الإيجابي يستدعي:

• توعية المجتمع: من خلال حملات إعلامية وتثقيفية تحارب العنف الأسري وتروج لأساليب التربية الرحيمة.

• تدريب المعلمين: على استخدام أساليب الانضباط الإيجابي داخل الفصول، والامتناع عن الإذلال أو العقاب الجسدي.

• سن القوانين الرادعة: لحماية الأطفال من التعذيب داخل المؤسسات أو المنازل، كما نصت على ذلك اتفاقية حقوق الطفل الدولية.

• توفير الدعم النفسي: للأطفال الذين تعرضوا للعنف، وتأهيلهم نفسياً واجتماعياً.

التربية الرحيمة في التراث الإسلامي

جاء الإسلام برؤية متقدمة للغاية حول معاملة الأطفال، حيث قال النبي محمد ﷺ: “ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا.” وفي أحاديثه وسيرته، نجد نماذج راقية من التهذيب القائم على المحبة والتشجيع والصبر، دون إهانة أو تعنيف. بل إنه كان يتعامل مع أخطاء الأطفال برحمة بالغة، ويراعي مشاعرهم وكرامتهم، ويضرب المثل العملي في القدوة، لا في القسوة.

التهذيب في زمن التكنولوجيا

في عصر تتغلغل فيه التكنولوجيا في كل تفاصيل الحياة، صار الطفل يتعرض لمؤثرات خارجية ضخمة من الشاشات ومواقع التواصل. وهذا يستدعي من الأهل أن يكونوا أكثر يقظة ومشاركة في حياة أبنائهم، لا عبر السيطرة، بل من خلال الحوار والمرافقة الوجدانية.

وتشير الدراسات إلى أن الاستخدام المفرط للأجهزة الإلكترونية قد يؤدي إلى تبلد العاطفة، وتأخر النمو اللغوي، وصعوبة التفاعل الاجتماعي. ومن هنا، فإن التهذيب في العصر الرقمي يجب أن يتضمن وضع حدود ذكية لاستخدام التكنولوجيا، وتعزيز الأنشطة الواقعية التي تنمي المهارات الحياتية، مع توفير البدائل المفيدة.

الخاتمة

إن التربية القائمة على التهذيب لا التعذيب، ليست خياراً أخلاقياً فحسب، بل ضرورة نفسية واجتماعية وإنسانية، تضمن بناء أجيال سوية قادرة على الإسهام الإيجابي في مجتمعاتها. فكل طفل يُحترم يُثمر إنساناً يحترم ذاته والآخرين، وكل كلمة طيبة تُقال له تُثمر قلباً سليماً ونفساً معطاءة. ومجتمعنا الذي يحلم بالنهضة لا يمكن أن يبلغها عبر القسوة، بل عبر الرحمة التي تهذب ولا تؤذي، وتربي ولا تُهين، وتوجّه دون أن تكسر.

المراجع:

• يونيسيف، تقرير حماية الطفل من العنف، 2022.

• مركز دراسات الطفل والأسرة – جامعة ميشيغان، التقرير السنوي 2021.