حركة التأليف في العصر المملوكي
شهد العصر المملوكي فترة من الازدهار الثقافي والفكري، التي ساعدت في ظهور حركة تأليفية واسعة النطاق في مختلف المجالات الأدبية والعلمية. اتسم هذا العصر بتعدد وتنوع المجالات التي نشط فيها المؤلفون، كما اتسمت الحركة التأليفية بخصائص مميزة تجسدت في توجيه العديد من المؤلفات إلى أغراض دينية، تاريخية، علمية، وأدبية. تأثر المؤلفون في هذا العصر بموروثاتهم الثقافية والعلمية من العصور السابقة، إضافة إلى الظروف الاجتماعية والسياسية التي هيمنت على المجتمع المملوكي. في هذا المقال، سنتناول أبرز مظاهر حركة التأليف في العصر المملوكي من حيث تطورها، أهم الموضوعات التي تم التأليف فيها، والأدوات والوسائل التي ساعدت على ازدهار الحركة.
1. البيئة الاجتماعية والثقافية في العصر المملوكي
ظهر العصر المملوكي في فترة من الزمن امتدت من أواخر القرن السابع الهجري إلى نهاية القرن العاشر الهجري، ومرت خلالها المنطقة بعدة تحولات اجتماعية وثقافية. كان النظام السياسي في هذا العصر يعتمد على حكم سلاطين مماليك، حيث كانت هناك طبقات من العلماء والفقهاء الذين تأثروا بالبيئة العلمية الإسلامية، بالإضافة إلى أن هناك تداخلًا بين ثقافات مختلفة، حيث تأثرت مصر والشام بفكر الفاطميين والأيوبيين، وفي ذات الوقت تأثرت بالثقافة البيزنطية والفرنجية.
كما أن انتشار الازدهار الاقتصادي والعمراني، خاصة في مدن مثل القاهرة ودمشق، قد ساهم في تشكيل بيئة ثقافية خصبة أدت إلى بروز حركة تأليفية واسعة. فبينما كانت السلطة المملوكية تستفيد من الجيوش القوية والإدارة الفعالة، كانت الثقافة تنتعش في ظل وجود عدد كبير من العلماء والفلاسفة والمفكرين الذين أسهموا في التأليف وإنتاج المعرفة.
2. التأليف في الفقه والتفسير والحديث
كان من أبرز مجالات التأليف في العصر المملوكي هو الفقه الإسلامي. وقد شهدت هذه الفترة تطورًا كبيرًا في حركة التأليف الفقهي، خاصة فيما يتعلق بمذاهب الفقه السني. في ذلك الوقت، كان العلماء يركزون على شرح وتفسير كتب الفقه الكبرى، مثل “المغني” لابن قدامة و”المجموع” للنووي، وغيرها من الأعمال التي أصبحت مرجعًا رئيسيًا للفقهاء. وقد تم إغناء المكتبة الفقهية بالعديد من المؤلفات التي ساعدت في توجيه الفتاوى الشرعية، مع مراعاة خصوصيات كل مذهب من المذاهب الأربعة.
بالإضافة إلى الفقه، كان هناك اهتمام كبير بتأليف الكتب في علوم الحديث، خاصة في تصنيف الأحاديث وترتيبها. وكان العلماء في العصر المملوكي يسعون لإصدار كتب حديثية تتناول مواضيع مختلفة من السنة النبوية، حيث عملوا على جمع وتوثيق الأحاديث التي وردت عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك على تنقية الأحاديث الضعيفة والموضوعة. وظهرت العديد من كتب التفسير التي تناولت تأويل القرآن الكريم، مثل تفسير القرطبي الذي أصبح من أشهر الكتب في هذا المجال.
3. التأليف التاريخي والجغرافي
شهد العصر المملوكي أيضًا تطورًا في حركة التأليف التاريخي، حيث كانت هناك عدة دوافع للكتابة التاريخية في هذا العصر، سواء كانت دينية أو سياسية. كان المؤرخون في هذا العصر يركزون على توثيق الأحداث السياسية والإدارية التي حدثت في ظل حكم المماليك، بما في ذلك الحروب التي خاضها المماليك ضد التتار والصليبيين.
من بين أشهر المؤلفات التاريخية التي ظهرت في هذا العصر، “النجوم الزاهرة” لابن تغري بردي، الذي تناول تاريخ مصر والشام في فترة حكم المماليك، وكذلك “المقفي” لمؤلفه السيوطي، الذي أرخ للحروب والمواجهات العسكرية الهامة في تلك الفترة. وقد كانت هذه الكتب تروي الأحداث السياسية المهمة وتوثق حياة السلاطين والمماليك.
إضافة إلى ذلك، كان هناك أيضًا العديد من الكتب الجغرافية التي اهتمت بتوثيق معالم بلاد الشام ومصر والعراق، حيث قام الجغرافيون برسم الخرائط وتوصيف الأماكن التي زاروها.
4. التأليف الأدبي والشعري
لم يكن التأليف في العصر المملوكي مقتصرًا على العلوم الدينية والفقهية فحسب، بل كان أيضًا مجالًا واسعًا للأدب والشعر. شهدت هذه الفترة ظهور العديد من الشعراء الذين أبدعوا في كتابة الأغراض الشعرية المختلفة، مثل المديح، والهجاء، والرثاء، والغزل. وكان شعراء مثل ابن جزلة، وابن الرومي، وغيرهم قد أصبحوا من أبرز شعراء العصر المملوكي، الذين حافظوا على التراث الأدبي العربي وأضفوا عليه لمسات فنية مميزة.
وكانت البلاطات الملكية مكانًا خصبًا لتشجيع الشعراء والمبدعين على التأليف والإبداع، حيث كان السلاطين المماليك يعقدون مجالس الأدب ويستضيفون الشعراء في قصورهم. وقد شهدت هذه الفترة تطورًا في الأساليب الأدبية، حيث امتزجت الشعر الفصيح مع الأشكال الأدبية الأخرى مثل النثر الحكائي والقصصي، مما أدى إلى إنتاج مؤلفات أدبية تتميز بثراء الأسلوب وعمق المعنى.
5. التأليف في الفلك والطب والكيمياء
كما هو الحال في العديد من العصور الإسلامية السابقة، كانت العلوم التطبيقية مثل الفلك والطب والكيمياء تحظى باهتمام كبير في العصر المملوكي. كان العلماء في هذا العصر يواصلون الأبحاث الفلكية ويقومون بتطوير الآلات الفلكية، بالإضافة إلى العديد من الأعمال الطبية التي اهتمت بمعالجة الأمراض وإيجاد الأدوية المناسبة لها. وقد اشتهر بعض العلماء مثل ابن أبي أوسا وأبو الحسن القيرواني في مجال الطب.
أما في الكيمياء، فقد شهد العصر المملوكي ازدهارًا في الدراسات المتعلقة بالكيمياء العملية والصناعية، حيث قام بعض العلماء بابتكار وصناعة مواد كيميائية جديدة، خاصة في مجال صناعة العطور، وصناعة الأدوية.
6. التأليف في التصوف والفكر الفلسفي
كان التصوف والفلسفة من المجالات المهمة التي ازدهرت في العصر المملوكي. عُرف العديد من المؤلفين الذين اهتموا بالتصوف وشرحوا مفاهيمه وأساليبه. وظهرت العديد من المؤلفات التي تعنى بتوضيح السلوك الروحي للمسلمين، وكيفية الوصول إلى الكمال الروحي. من أبرز هؤلاء المؤلفين، ابن عربي الذي ألف كتبًا تناولت التصوف والفكر الفلسفي من منظور ديني.
أما الفلسفة، فقد اهتم العديد من المفكرين المماليك بإعادة إحياء التراث الفلسفي القديم، مثل فلسفة أرسطو وفلسفة الفارابي، وقد تم تأليف العديد من الكتب التي تناولت هذه المواضيع ووضحت أفكار الفلاسفة القدماء.
7. العوامل التي ساعدت على ازدهار حركة التأليف
العديد من العوامل ساهمت في ازدهار حركة التأليف في العصر المملوكي. أولاً، كان هناك دعم قوي من السلاطين المماليك الذين خصصوا الأموال لدعم العلماء والمفكرين. وكان بعض السلاطين يفضلون بناء المكتبات والمراكز العلمية لدعم الحركة الثقافية.
ثانيًا، كانت حركة التأليف تعتمد على وجود مدارس وجامعات مثل الأزهر وغيرها، التي كانت بمثابة مراكز تعليمية تؤهل الطلاب لتأليف الكتب والمراجع. كما ساعدت الحرف اليدوية مثل صناعة الورق والطباعة على تسهيل نشر الكتب والمخطوطات.
8. خاتمة
إن حركة التأليف في العصر المملوكي كانت حقبة غنية من الإنتاج الفكري والثقافي. فقد أسهم المؤلفون في هذا العصر في إثراء التراث الإسلامي والعربي من خلال تأليف مؤلفات في شتى المجالات، ما جعل هذا العصر نقطة تحول هامة في تاريخ الفكر الإسلامي. كما أن الحركة التأليفية في هذا العصر لا تزال تلعب دورًا بارزًا في فهمنا للعديد من الجوانب الدينية، التاريخية، والفكرية في العالم الإسلامي.
