أسباب كثرة البلاء في الحياة

أسباب كثرة البلاء

يمثل البلاء جانبًا محوريًا في التجربة الإنسانية، وقد تناولته النصوص الشرعية الإسلامية بالشرح والبيان، مبينة أنه سنة من سنن الله في خلقه، وأنه لا يقع إلا بحكمة ومصلحة، سواء أدركها الإنسان أو غابت عنه. ومع أن البلاء قد يكون مؤلمًا وقاسيًا في ظاهره، إلا أن النظر إليه بمنظور إيماني وروحي يكشف عن حكم وأسرار عظيمة. ومن خلال تتبع نصوص الكتاب والسنة، وآراء العلماء، وتدبر وقائع الحياة، يمكن الوقوف على أبرز الأسباب التي تؤدي إلى كثرة البلاء، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات.

أولًا: البلاء سنة ماضية لا محيد عنها

من المهم التمهيد لهذه المسألة بإدراك أن البلاء من طبيعة الحياة الدنيا، وليس استثناءً أو أمرًا نادرًا، بل هو قاعدة تجري على جميع الخلق. قال الله تعالى:

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].

وقال أيضًا:

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2].

فالبلاء إذًا هو جزء من وظيفة الوجود الإنساني، ووسيلة لتمحيص الإيمان، وتربية النفوس، وتكفير الذنوب، ورفع الدرجات.

لكن مع ذلك، فإن تفاوت الناس في كثافة البلاء وحدته يعود إلى أسباب متعددة، بعضها يرتبط بما جناه الإنسان من عمل، وبعضها يكون لحكمة إلهية في تطهيره أو تهيئته لمقام أعلى.

ثانيًا: المعاصي والذنوب سبب رئيسي لكثرة البلاء

من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى كثرة البلاء على الأفراد والمجتمعات، المعاصي بمختلف صورها. وقد دلّت على ذلك نصوص كثيرة، منها قول الله عز وجل:

﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ [الشورى: 30].

فالمعاصي لها أثر تراكمي ومدمر على الفرد والمجتمع، إذ تجلب النقمة، وتزيل البركة، وتغلق أبواب الخير، وتفتح أبواب الشر، وتجعل الإنسان عرضة لسخط الله وانتقامه. ومن الأمثلة التاريخية البارزة على ذلك، ما حلّ بالأمم السابقة من دمار بسبب ذنوبهم، كما في قوم نوح، وقوم عاد، وثمود، وقوم لوط، وغيرهم.

وقد ورد عن الحسن البصري قوله: “إن الرجل ليذنب الذنب فيُحرَم به قيام الليل”، وقال ابن القيم رحمه الله: “ومن عقوبات المعاصي أنها تورث الذل، وإذا أراد الله بعبد خيرًا جعله يعاين ذله بمعصيته”.

ثالثًا: الرياء والضعف في الإخلاص سبب خفي للبلاء

قد يبتلى الإنسان ببلاءات متكررة وهو ظاهريًا مستقيم، ملتزم بفرائض الدين، لكنّ قلبه ملوث بالرياء أو ضعيف في الإخلاص. فالنية هي الميزان عند الله، والباطن مقدَّم على الظاهر. وقد جاء في الحديث القدسي:

“أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه” [رواه مسلم].

فالبلاء في هذه الحالة يكون تطهيرًا للنية، وتمحيصًا للصادق من المدّعي، وتنقية القلب من شوائب الشرك الخفي. وقد يعقبه فتح عظيم وخير متتابع إذا صدق العبد في التوبة والرجوع إلى الإخلاص.

رابعًا: الترف والطغيان والاستغناء سبب لهلاك المجتمعات

عندما يغرق الناس في النعم ويبالغون في الترف دون شكر، تنقلب النعمة إلى نقمة، ويأتي البلاء ليسلبهم ما أغفلهم عن خالقهم. قال الله تعالى:

﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ، فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: 16].

فالمجتمع حين يعتاد النعيم ويتنكر للمنعم، ويعيش في غفلة واستكبار، تتسارع إليه أنواع من البلاء: في المال، والصحة، والأمن، والأخلاق، حتى يعود إلى ربه أو يهلك كما هلكت أمم كثيرة.

خامسًا: الابتلاء تكريم ورفعة للمؤمنين الصادقين

قد يُظن أن كثرة البلاء دائمًا علامة على سخط الله، غير أن الحقيقة أن هناك نوعًا من البلاء لا علاقة له بالذنوب، بل هو تكريم من الله لعباده الصالحين. فقد قال النبي ﷺ:

“أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه” [رواه الترمذي].

فكلما عظم الإيمان، عظم الابتلاء، وهذا لتمحيص الصبر، وتثبيت اليقين، ورفع الدرجات. ومن الأمثلة الساطعة: بلاء أيوب عليه السلام، وصبر يوسف في السجن، ومحنة إبراهيم مع قومه، وغيرهم من الأنبياء والصالحين.

سادسًا: للتقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أثر في انتشار البلاء

عندما يسكت أهل الخير عن الفساد، ويترك الصالحون إصلاح المجتمع، تتسع رقعة الانحراف، ويحل البلاء على الجميع. وقد قال رسول الله ﷺ:

“إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه” [رواه الترمذي].

فالصمت عن المنكر، والتقاعس عن الإصلاح، والركون إلى السلبية، يؤدي إلى رفع الحماية الإلهية، ويجعل المجتمع كله عرضة للابتلاء والعقوبة الجماعية.

سابعًا: الغفلة عن ذكر الله سبب رئيسي للبلاء

قال الله تعالى:

﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا﴾ [طه: 124].

فالقلوب التي تبتعد عن الله، وتعيش في غفلة دائمة، تكون حياتها مليئة بالضيق والمحن، حتى وإن امتلكت المال والشهرة. الغفلة عن ذكر الله تحرم الإنسان من الطمأنينة، وتجعله عرضة للهم والقلق، وتفتح أبواب البلاء النفسي والاجتماعي والروحي.

ثامنًا: البلاء لتذكير الإنسان بضعفه وافتقاره إلى الله

البلاء يأتي ليعيد الإنسان إلى فطرته التي قد تغلفها العادة، والانشغال بالدنيا، والغرور. فالإنسان في الرخاء قد ينسى الله، ويظن أنه مستغنٍ، كما قال تعالى:

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ﴾ [العلق: 6-7].

ومن رحمة الله أن يبتلي العبد ليرده إليه ردًا جميلًا، فيتضرع ويتوب، ويعود إلى طريق الهدى. وهذا من أعظم ثمار البلاء، إذا تلقاه العبد بتفكر واعتبار.

تاسعًا: البلاء نتيجة لسوء الظن بالله وعدم الرضا بقضائه

من الناس من يبتلى بسبب نظرته السوداوية إلى الحياة، واعتراضه المستمر على قضاء الله وقدره. ومن لم يرضَ بقضاء الله، جلب لنفسه بلاءً جديدًا فوق البلاء الواقع عليه، قال رسول الله ﷺ:

“إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط” [رواه الترمذي].

فالرضا بالقضاء واليقين بعدل الله هو مفتاح النجاة، ومن لم يتحقق به، قد يستمر عليه البلاء حتى يصحح علاقته بربه.

عاشرًا: فتنة البلاء كاختبار للإرادة والعقيدة

البلاء أحيانًا يكون بمثابة الاختبار العملي للعقيدة، خاصة إذا تعلق بإكراه الإنسان على ترك دينه أو مسايرة الباطل. وقد قال الله تعالى عن أصحاب الأخدود:

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج: 10].

وهذا النوع من البلاء يصفي الصفوف، ويظهر الثابت من المتردد، ويميز الصادق في إيمانه ممن يتبع الدين في الرخاء فقط.

جدول يوضح أنواع البلاء وأسبابه ومقاصده الشرعية

الخاتمة: نظرة شاملة حول البلاء

إن كثرة البلاء ليست دائمًا علامة على غضب الله، لكنها جرس إنذار، ورسالة إلهية لكل إنسان ومجتمع أن يعيد حساباته، ويصحح مساره، ويرجع إلى خالقه. ولأن الدنيا دار اختبار لا دار قرار، فإن البلاء فيها لا يُفهم إلا بمنظار الإيمان، ولا يُواجه إلا بالتسليم والرضا، والعمل على تصحيح العلاقة مع الله.

المصادر:

1. ابن القيم، الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

2. السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور