أسباب جلب البركة في الحياة

أسباب تحصيل البركة

البركة مفهوم عميق في التصور الإسلامي، تتعدى معانيه حدود الزيادة في المال أو العدد لتشمل طمأنينة النفس، وراحة القلب، وحسن العاقبة، والتيسير في الأمور، والنماء في الخير، والاستمرارية فيه. والبركة هبة إلهية يهبها الله لعباده من خلال وسائل وأسباب شرعية وكونية، وعند التأمل في النصوص الشرعية نجد أن هناك سننًا ومفاتيح يفتح الله بها أبواب البركة في حياة الفرد والمجتمع. هذا المقال يعرض بتفصيل علمي وحياتي موسع لأهم أسباب تحصيل البركة في ضوء الوحي والواقع.

أولًا: البركة في المفهوم الإسلامي

البركة في اللغة تعني النماء والزيادة والثبات، ومنه البركة في الماء أي تجمعه، وقد استخدم هذا المعنى في القرآن والسنة للدلالة على زيادة الخير واستقراره. وقد جاء في الدعاء النبوي: “اللهم بارك لنا في ما رزقتنا” أي اجعل فيه نماءً واستمرارًا للخير. والبركة قد تكون في الوقت، أو المال، أو العلم، أو الجهد، أو الذرية، وهي ليست مرتبطة دائمًا بالكثرة المادية، فقد يبارك الله في القليل فيكون أكثر نفعًا من كثير لا بركة فيه.

ثانيًا: الإيمان والتقوى أساس البركة

من أعظم أسباب البركة في حياة الإنسان تحقيق الإيمان والعمل بالتقوى، فقد ربط الله بين تقوى العبد وبين فتح أبواب البركات. يقول الله تعالى:

﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96].

فالمؤمن المتقي يحيى في ظل الرضا والطمأنينة ويُفتح له من البركات ما لا يُفتح لغيره من أهل الغفلة والذنوب، ولو قل رزقه أو ماله، فالبركة تصنع الفارق الجوهري بين حياة طيبة وقلقة، وبين مال كثير لا نفع فيه وآخر قليل يُنفق في وجوه الخير.

ثالثًا: الاستغفار طريق إلى البركة

من السنن الإلهية أن الاستغفار سبب عظيم من أسباب البركة والرزق والنماء، وقد ورد على لسان نبي الله نوح عليه السلام في دعوته لقومه:

﴿فَقُلتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10-12].

الاستغفار يمحو الذنوب ويجلب رضى الله، ورضى الله هو مفتاح كل بركة، إذ أن الذنوب تحرم العبد من البركة، كما قال النبي ﷺ: “إن الرجل ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه” [رواه ابن ماجه].

رابعًا: صلة الرحم باب من أبواب البركة

صلة الرحم سبب مباشر لبركة العمر والرزق، وقد جاء في الحديث الصحيح:

“من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه” [رواه البخاري ومسلم].

البسط في الرزق هو من صور البركة، والنَّسء في الأثر هو بركة في العمر، سواء كان ذلك بطول الحياة أو بكثرة الأعمال الصالحة فيها. فصلة الرحم ليست مجرد خلق حسن، بل هي عبادة لها مردود دنيوي وآخروي.

خامسًا: الصدق في المعاملة والتجارة

من أعظم أسباب تحصيل البركة في المال والتجارة أن يكون العبد صادقًا أمينًا، متجنبًا الغش والكذب والربا، وقد قال رسول الله ﷺ:

“البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما” [رواه البخاري ومسلم].

فالصدق يجلب رضا الله، ورضا الله يجلب البركة، أما الكذب والغش فإنه سبب مباشر لمحق البركة، حتى وإن بدت المعاملة رابحة في ظاهرها.

سادسًا: الإنفاق في سبيل الله

البركة لا ترتبط بالاكتناز، بل بالإنفاق. والإنفاق في سبيل الله سبب مباشر للبركة، كما في قوله تعالى:

﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ [سبأ: 39].

الإنفاق يتضمن الزكاة، والصدقات، ونفقة الأهل، ومساعدة المحتاجين، وهو طريق مبارك لجلب المال وتطهيره وزيادته معنويًا وماديًا. وقد قال النبي ﷺ: “ما نقص مال من صدقة” [رواه مسلم].

سابعًا: الابتعاد عن الربا والمعاصي

من مظاهر محق البركة أن يُدخل الإنسان إلى ماله أو حياته شيئًا من الحرام، وأشد ذلك الربا، قال الله تعالى:

﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة: 276].

فأكل الحرام، والغش، والظلم، كلها أسباب لنزع البركة من المال والحياة والأولاد، حتى وإن كان ظاهر الأمر غنيًا ومنتعشًا. ومتى دخل الحرام، نُزعت البركة ووقع البلاء.

ثامنًا: الدعاء بطلب البركة

الدعاء من أسباب البركة، وقد علم النبي ﷺ أمته أن يدعوا بطلب البركة في الرزق، في العمر، في الأهل، في الوقت، ومن الأدعية الواردة:

“اللهم بارك لنا في أعمارنا، وأموالنا، وأهلينا، وأوقاتنا، وذرياتنا، وأصلح لنا شأننا كله”.

وقد كان النبي ﷺ يبارك لأصحابه، كما بارك لعبد الرحمن بن عوف في ماله، فكان ممن فتح الله عليه من الخير ما لا يُحصى.

تاسعًا: الاستيقاظ باكرًا وطلب الرزق في أول النهار

من السنة أن يكون طلب الرزق في أول اليوم، ففي الحديث:

“اللهم بارك لأمتي في بكورها” [رواه الترمذي].

البركة في البكور تشمل الجهد، والوقت، والرزق، والعلم، والنجاح، وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الإنتاجية الفكرية والجسدية تكون أفضل في ساعات الصباح، مما يدل على توافق السنن الكونية مع السنن الشرعية.

عاشرًا: الاهتمام بالنظافة والطهارة

النظافة والطهارة ليست فقط سلوكًا صحيًا، بل هي سبب لجلب البركة، فقد قرن الإسلام بين الطهارة والبركة في أكثر من موضع. والنبي ﷺ كان إذا دخل منزله بدأ بالسواك، وكان يحب الطيب والنظافة في الملبس والمكان والبدن، وكان يقول: “الطهور شطر الإيمان”.

والبيت النظيف الطاهر يكون فيه الملائكة وتُجلب له البركة، أما البيوت التي تكثر فيها النجاسات أو تترك فيها القاذورات فهي مأوى الشياطين، ومماحقة للبركة.

الحادي عشر: الاهتمام بتلاوة القرآن في البيوت

البيوت التي يُتلى فيها القرآن تتحقق فيها البركة، وتفر منها الشياطين، وتسكنها الملائكة، ويشيع فيها الهدوء والطمأنينة. قال النبي ﷺ:

“إن البيت الذي يُذكر فيه الله تكثر بركته، ويضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض” [رواه الطبراني].

والقرآن ذاته مبارك، قال الله تعالى:

﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ﴾ [ص: 29].

فالتمسك به تلاوةً وتدبرًا وعملاً سبب مباشر للبركة في الحياة.

الثاني عشر: الزواج والولد الصالح

الزواج في ذاته باب من أبواب البركة، وقد رغب فيه الإسلام وعدَّه من سنن الأنبياء، قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً﴾ [الرعد: 38].

والذرية الصالحة من أعظم ما يُورث البركة في الدنيا والآخرة، فالولد الصالح لا تنقطع بركته بوفاة والده، بل يظل يدعو له، ويصدق عنه، ويجري عليه نفع ذلك، كما جاء في الحديث: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث… وولد صالح يدعو له” [رواه مسلم].

جدول: مقارنة بين أسباب البركة ومظاهرها

المصادر والمراجع:

1. ابن القيم، مفتاح دار السعادة، دار ابن الجوزي.

2. الإمام النووي، رياض الصالحين، دار السلام.