عنوان المقال: أسباب النسيان عند الشباب
مقدمة
النسيان ظاهرة شائعة يعاني منها الجميع بدرجات متفاوتة، إلا أن ملاحظته المتزايدة بين فئة الشباب تثير تساؤلات علمية وطبية حول أسبابه وآلياته. إذ لطالما ارتبط النسيان بالتقدم في السن أو أمراض الشيخوخة، غير أن ما يشهده الواقع من تفشي ظاهرة النسيان بين الشباب في العقدين الثاني والثالث من العمر يفرض إعادة النظر في المسببات التقليدية وتقصّي العوامل البيولوجية، النفسية، السلوكية، وحتى المجتمعية التي قد تسهم في هذا الاضطراب.
يُعدّ الشباب في هذه المرحلة في أوج طاقاتهم الذهنية والجسدية، ولذلك فإن تراجع كفاءتهم الإدراكية أو معاناتهم من ضعف في الذاكرة قصيرة أو طويلة المدى يستدعي فهماً عميقاً للعوامل المساهمة.
أولاً: العوامل النفسية والضغط العصبي
تُعدّ الضغوط النفسية المزمنة أحد أبرز الأسباب وراء ضعف الذاكرة لدى الشباب. التوتر والقلق المستمر، سواء الناتج عن الدراسة أو العمل أو العلاقات الاجتماعية، يؤدي إلى إفراز مفرط لهرمون الكورتيزول، الذي يؤثر سلباً على منطقة الحُصين (Hippocampus) في الدماغ، وهي المسؤولة عن تكوين وتخزين الذكريات.
تشير دراسات علمية منشورة في مجلة Nature Neuroscience إلى أن التعرض المستمر للتوتر المزمن يمكن أن يقلل من حجم الحصين بنسبة قد تصل إلى 10%، مما ينعكس على القدرة على تذكر المعلومات أو استرجاعها. إضافةً إلى ذلك، يعاني من يعانون من اضطرابات القلق أو الاكتئاب من تراجع في الانتباه والتركيز، وهما شرطان أساسيان لتكوين ذاكرة فعالة.
ثانياً: الاعتماد المفرط على التكنولوجيا
في العصر الرقمي، أضحى الشباب يعتمدون اعتماداً شبه كلي على الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب لتخزين المعلومات، سواء كانت ملاحظات دراسية، تواريخ مهمة، أو حتى الأرقام الشخصية. هذا الاعتماد المفرط أدى إلى ما يُعرف بـ”الكسل المعرفي”، حيث يتوقف الدماغ عن بذل الجهد اللازم لحفظ المعلومات، مما يقلص من كفاءته على المدى الطويل.
تظهر الأبحاث التي نشرتها جامعة كاليفورنيا أن الأشخاص الذين يعتمدون بشكل كبير على محركات البحث لتذكر المعلومات يميلون إلى نسيان المعلومات التي لا يسجلونها رقمياً بنسبة أكبر من أولئك الذين يعتمدون على ذاكرتهم الداخلية.
ثالثاً: اضطرابات النوم
قلة النوم أو اضطراب نمطه يعد عاملاً محورياً في إضعاف الذاكرة عند الشباب. إذ أن النوم، وبالأخص مرحلة النوم العميق (Deep Sleep) ومرحلة حركة العين السريعة (REM)، هما الفترتان اللتان يجري فيهما تثبيت الذكريات وتحويلها من الذاكرة المؤقتة إلى الدائمة.
أظهرت دراسات طبية أن النوم غير الكافي يؤدي إلى خلل في عمل الناقلات العصبية الضرورية للذاكرة، مثل الأسيتيل كولين والدوبامين، ويؤثر على نشاط القشرة الجبهية التي تلعب دوراً مهماً في عمليات الانتباه والاسترجاع المعرفي.
رابعاً: سوء التغذية ونقص الفيتامينات
تؤثر التغذية تأثيراً مباشراً على صحة الدماغ وكفاءة الذاكرة. النقص في فيتامينات محددة، وخاصة فيتامين B12، وفيتامين D، وأحماض الأوميغا 3 الدهنية، يؤدي إلى خلل في وظائف الخلايا العصبية، ويقلل من كفاءة النقل العصبي بين الخلايا، وهو ما ينعكس سلباً على عملية التذكر.
كما أن الإفراط في تناول السكريات والدهون المشبعة يعزز من التهابات الدماغ الدقيقة (Neuroinflammation)، مما يعوق كفاءة المعالجة العصبية ويضعف من الاتصال بين مراكز الذاكرة المختلفة.
| العنصر الغذائي | دوره في الذاكرة | مصادره الطبيعية |
|---|---|---|
| فيتامين B12 | إنتاج النواقل العصبية، دعم الغشاء العصبي | الكبد، البيض، منتجات الألبان |
| أوميغا 3 | تحسين الاتصالات العصبية، تقوية الذاكرة طويلة المدى | الأسماك الدهنية، الجوز |
| فيتامين D | تنظيم المزاج وتحسين التركيز | ضوء الشمس، زيت كبد الحوت |
خامساً: قلة النشاط البدني
النشاط البدني لا يسهم فقط في تعزيز الصحة الجسدية، بل له دور كبير في تنشيط الدورة الدموية للدماغ وتحفيز نمو خلايا عصبية جديدة. تشير أبحاث نُشرت في دورية Frontiers in Psychology إلى أن ممارسة التمارين الهوائية كالمشي السريع والسباحة تعزز من إفراز مادة BDNF (عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ)، والتي تساهم في تحسين القدرة على التعلم وحفظ المعلومات.
قلة الحركة، التي أصبحت سمة من سمات الحياة اليومية للشباب في المدن، تساهم بالتالي في تراجع كفاءة الذاكرة والانتباه.
سادساً: الإدمان على وسائل التواصل الاجتماعي
تُظهر الأدلة الحديثة أن الاستخدام المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي يؤثر سلباً على التركيز والذاكرة. فالتنقل السريع بين تطبيقات متعددة، وتلقي عدد كبير من الرسائل والإشعارات، يشتت الذهن ويمنع الدماغ من الدخول في حالات التركيز العميق (Deep Focus)، الضروري لترسيخ المعلومات في الذاكرة طويلة الأمد.
وقد بينت دراسة أجريت في جامعة كاليفورنيا أن الشباب الذين يستخدمون تطبيقات التواصل لأكثر من 5 ساعات يومياً، يعانون من ضعف في الأداء التذكري مقارنة بغيرهم بنسبة تصل إلى 25%.
سابعاً: التدخين وتعاطي المنبهات
التدخين، والكافيين الزائد، ومشروبات الطاقة، لها تأثيرات سلبية تراكمية على الذاكرة. فبينما تمنح الكافيين دفعة مؤقتة للانتباه، إلا أن الاستهلاك المزمن يؤدي إلى اضطراب في نمط النوم، وزيادة القلق، وهو ما يؤثر بدوره على كفاءة العمليات الإدراكية.
أما التدخين، فهو يسبب تلف الأوعية الدقيقة التي تغذي الدماغ، كما أن المواد السامة في السجائر تؤدي إلى موت الخلايا العصبية تدريجياً، مما ينعكس على الذاكرة اللفظية والبصرية.
ثامناً: أسباب طبية وعضوية
بعض الحالات المرضية قد تكون خفية لدى الشباب وتؤدي إلى مشاكل في التذكر، منها:
-
الغدة الدرقية: قصور الغدة الدرقية يؤدي إلى تباطؤ في العمليات الذهنية، مما يضعف الذاكرة.
-
السكري: اضطراب مستويات السكر في الدم قد يؤثر على الوظائف الدماغية.
-
الأنيميا: نقص الحديد يؤدي إلى قلة الأوكسجين المغذي للمخ، مما يؤثر سلباً على الانتباه والتركيز.
-
الأورام الدماغية أو الإصابات السابقة: تؤثر بعض الأورام أو إصابات الرأس على مراكز معالجة المعلومات في الدماغ.
تاسعاً: اضطرابات الذاكرة المؤقتة الناتجة عن الحمل المعرفي الزائد
في بيئة يتعرض فيها الشباب لحجم هائل من المعلومات يومياً، بين ما يتلقونه من وسائل الإعلام، والمنصات التعليمية، والبيئة الاجتماعية، تتعرض الذاكرة لما يُعرف بـ”الحمل المعرفي الزائد” (Cognitive Overload)، وهو ما يؤدي إلى ضعف قدرة الدماغ على التصفية والمعالجة الفعالة للمعلومات الجديدة.
يتعامل الدماغ مع كمّ هائل من المعلومات غير الضرورية، مما يعيق ترسيخ المعلومات المهمة ويشتت الموارد المعرفية المحدودة.
عاشراً: العوامل الوراثية
تلعب العوامل الوراثية دوراً لا يمكن إغفاله، خاصة لدى من لديهم تاريخ عائلي في مشاكل الذاكرة أو اضطرابات عصبية مبكرة. في هذه الحالات، يمكن أن تظهر اضطرابات الذاكرة بشكل تدريجي، وقد تكون أولى علاماتها لدى الشباب على شكل نسيان متكرر للأسماء، التفاصيل اليومية، أو صعوبة في التذكر الفوري للمعلومات الحديثة.
خاتمة
إن النسيان عند الشباب ليس مجرد عارض عرضي، بل هو نتيجة لتداخل معقد بين العوامل النفسية، العصبية، الغذائية، السلوكية والبيئية. إن إدراك طبيعة هذه العوامل يسمح للشباب والمجتمعات بالتدخل المبكر من خلال تحسين نمط الحياة، وتنظيم النوم، وممارسة الرياضة، والابتعاد عن المنبهات والإجهاد المفرط.
وفي ظل تسارع وتيرة الحياة، لا بد من إعادة الاعتبار للصحة الذهنية ومراعاة التوازن بين الضغوط اليومية والعناية بالصحة العقلية، كخط دفاع أولي للحفاظ على الذاكرة والوظائف الإدراكية في أوج عطائها.
المراجع:
-
Sapolsky, R. M. (2000). Stress hormones: good and bad. Neurobiology of Disease, Elsevier.
-
Small, G. W., et al. (2020). Digital Technology Use and Its Effects on Brain Health and Memory. Journal of Alzheimer’s Disease Reports.
