أسباب الإنفلونزا: نظرة علمية موسعة على جذور المرض الفيروسي الموسمي

الإنفلونزا أو النزلة الوافدة، هي واحدة من أكثر الأمراض الفيروسية شيوعًا وانتشارًا حول العالم، تصيب الجهاز التنفسي وتُحدث موجات موسمية من العدوى، تؤثر على ملايين البشر سنويًا، وتُعتبر في كثير من الأحيان عاملًا رئيسيًا في ارتفاع معدلات التغيب عن العمل والمدارس، بل وقد تؤدي إلى مضاعفات خطيرة خاصة لدى كبار السن والأطفال وأصحاب الأمراض المزمنة. وعلى الرغم من أن الإنفلونزا غالبًا ما تُصنف ضمن “العدوى الشائعة”، فإن أسبابها تمتد إلى طيف واسع من العوامل الفيروسية والبيئية والمناعية والسلوكية، ما يستدعي تحليلًا علميًا موسعًا لتفكيك خلفيات هذه الحالة المرضية المعقدة.

أولًا: الفيروسات المسببة للإنفلونزا

السبب الرئيسي والمباشر للإنفلونزا هو العدوى بأحد فيروسات الإنفلونزا، والتي تنتمي إلى عائلة Orthomyxoviridae، وتنقسم إلى أربعة أنواع رئيسية:

1. فيروس الإنفلونزا من النوع A (Influenza A)

يُعد الأكثر فتكًا وانتشارًا بين الأنواع الأخرى. يتميز هذا النوع بقدرته العالية على التحور، ويصيب البشر والحيوانات على حد سواء، ما يجعله المصدر الأساسي للجوائح الكبرى، مثل جائحة الإنفلونزا الإسبانية في عام 1918. هذا النوع يمتلك بروتينين سطحيين هما الهيماغلوتينين (HA) والنورامينيداز (NA)، ويُصنف إلى سلالات فرعية وفقًا لهذين البروتينين، مثل H1N1 وH3N2.

2. فيروس الإنفلونزا من النوع B (Influenza B)

يقتصر تأثيره على البشر، وينتشر بشكل موسمي، لكنه لا يسبب جوائح عالمية مثل النوع A. ومع ذلك، يمكن أن يؤدي إلى حالات حادة من العدوى خاصة بين الأطفال وكبار السن.

3. فيروس الإنفلونزا من النوع C (Influenza C)

يسبب أعراضًا تنفسية خفيفة نسبيًا، وعادةً لا يُعد سببًا رئيسيًا في موجات الإنفلونزا الموسمية.

4. فيروس الإنفلونزا من النوع D (Influenza D)

يُصيب الحيوانات، وخصوصًا الماشية، ولا يُعتقد حاليًا أنه يسبب المرض لدى البشر.

ثانيًا: آليات انتقال فيروس الإنفلونزا

ينتقل فيروس الإنفلونزا من شخص إلى آخر عبر عدة طرق رئيسية تتيح له التفشي السريع، خاصة في الأماكن المكتظة وضعيفة التهوية:

• الرذاذ التنفسي: عند السعال أو العطاس أو حتى التحدث، تنتشر جزيئات دقيقة محملة بالفيروس في الهواء، لتصل إلى الأنف أو الفم أو العين لدى أشخاص آخرين.

• الأسطح الملوثة: يبقى الفيروس حيًا لساعات على الأسطح الصلبة مثل الطاولات ومقابض الأبواب، مما يتيح انتقاله عند لمس هذه الأسطح ثم لمس الوجه.

• الاتصال المباشر: مثل المصافحة أو التقبيل، خصوصًا في أوقات الذروة الموسمية للفيروس.

ثالثًا: عوامل مؤثرة في انتشار العدوى

1. الموسمية وتغيرات الطقس

تبلغ معدلات الإصابة ذروتها في أشهر الشتاء في معظم البلدان، ويُعتقد أن انخفاض درجات الحرارة والرطوبة يعزز من قدرة الفيروس على البقاء في الهواء لفترات أطول، كما يؤدي إلى جفاف الأغشية المخاطية، مما يجعل الجسم أكثر عرضة للإصابة.

2. الكثافة السكانية والسفر الدولي

تزيد الكثافة السكانية العالية ووسائل النقل الجماعية من فرص انتقال العدوى. كما أن السفر الدولي يعزز من انتقال السلالات الفيروسية بين الدول، ما يجعل مكافحة الإنفلونزا أكثر تعقيدًا على مستوى الصحة العامة.

3. نقص المناعة

الأشخاص الذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة، سواء بسبب أمراض مزمنة مثل السكري أو السرطان، أو نتيجة تناول أدوية مثبطة للمناعة، يكونون أكثر عرضة للإصابة بالإنفلونزا ومضاعفاتها.

4. اللقاحات غير الكافية

رغم توفر لقاحات موسمية فعالة نسبيًا، فإن معدلات التحصين غير الكافية أو تأخر الحصول على اللقاح يزيد من انتشار المرض، خصوصًا بين الفئات عالية الخطورة.

رابعًا: التحورات الوراثية للفيروس

من الخصائص الفريدة لفيروسات الإنفلونزا قدرتها العالية على التغير الوراثي، مما يجعل متابعتها والسيطرة عليها تحديًا دائمًا:

– الانجراف الجيني (Antigenic Drift)

تحدث تغيرات طفيفة في الجينات المسؤولة عن إنتاج البروتينات السطحية للفيروس، مما يساعده على التهرب من الجهاز المناعي للأشخاص الذين أصيبوا به سابقًا أو حصلوا على لقاح.

– التحول الجيني (Antigenic Shift)

وهو تغير كبير ومفاجئ يحدث عندما تتبادل فيروسات مختلفة جينات كاملة، ما ينتج عنه سلالة جديدة كليًا قد تؤدي إلى جائحة بسبب غياب المناعة المجتمعية ضدها.

خامسًا: دور الجهاز المناعي في الإصابة

عندما يصيب الفيروس الجسم، يبدأ الجهاز المناعي بالاستجابة عبر سلسلة من التفاعلات:

• تنشيط الخلايا التائية القاتلة التي تهاجم الخلايا المصابة.

• إطلاق الإنترفيرونات وهي بروتينات تنبه الخلايا الأخرى للاستعداد لمقاومة الفيروس.

• تكوين الأجسام المضادة التي تستهدف الفيروس وتساعد في القضاء عليه.

إلا أن هذه الاستجابة قد تكون ضعيفة أو متأخرة في بعض الحالات، مما يؤدي إلى تفاقم الأعراض واستمرار العدوى لفترة أطول.

سادسًا: العوامل البيئية والمجتمعية

– التلوث الهوائي

ترتبط مستويات التلوث المرتفعة بضعف الصحة التنفسية وزيادة احتمال الإصابة بالعدوى التنفسية، بما فيها الإنفلونزا.

– العادات الاجتماعية

مثل العناق وتبادل الأدوات الشخصية والتواجد في أماكن مغلقة مكتظة، كلها تساهم في تعزيز فرص انتقال الفيروس.

– سوء التغذية

الأنظمة الغذائية الفقيرة بالفيتامينات والمعادن الضرورية مثل فيتامين C والزنك تضعف مناعة الجسم وتجعل الأفراد أكثر عرضة للعدوى.

سابعًا: الحالات المرتبطة بالإنفلونزا

لا تتوقف آثار الإنفلونزا عند العدوى الحادة، بل يمكن أن تؤدي إلى عدد من المضاعفات، خاصة لدى الفئات الهشة:

ثامنًا: الإنفلونزا وجائحة كوفيد-19

شهد العالم خلال جائحة كوفيد-19 انخفاضًا ملحوظًا في حالات الإنفلونزا، ويرجع ذلك إلى تطبيق الإجراءات الوقائية مثل ارتداء الكمامات والتباعد الجسدي. ومع ذلك، فإن رفع هذه الإجراءات لاحقًا أعاد تنشيط موجات الإنفلونزا، وأدى إلى ظهور ما يُعرف بـ”التوأمة الفيروسية” التي تحدث عند الإصابة بكوفيد والإنفلونزا معًا، مما يشكل تهديدًا مزدوجًا على الصحة العامة.

تاسعًا: الأبعاد الاقتصادية والصحية

الإنفلونزا ليست مجرد مشكلة صحية، بل هي أيضًا عبء اقتصادي كبير:

• خسائر إنتاجية: نتيجة التغيب عن العمل والدراسة.

• تكاليف طبية: تشمل زيارات الأطباء، الأدوية، دخول المستشفيات.

• تكاليف غير مباشرة: مثل رعاية الأطفال المصابين أو العناية بكبار السن.

تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن الإنفلونزا تتسبب في دخول ما بين 3 إلى 5 ملايين شخص سنويًا في حالات مرضية شديدة، وتؤدي إلى ما يصل إلى 650 ألف وفاة ناجمة عن مضاعفات تنفسية مرتبطة بها.

عاشرًا: الإجراءات الوقائية والتدخلات الممكنة

التحكم في انتشار الإنفلونزا يتطلب مجموعة متكاملة من التدخلات:

• اللقاح السنوي: الذي يتم تحديثه كل عام بناءً على سلالات الفيروس المنتشرة.

• تحسين التهوية: في الأماكن المغلقة.

• النظافة الشخصية: مثل غسل اليدين باستمرار وتغطية الفم أثناء السعال.

• الحد من التجمعات: خاصة في مواسم الذروة.

• المتابعة الوبائية: عبر أنظمة ترصد عالمية لتحديد التغيرات في سلوك الفيروس وسرعة انتشاره.

المراجع

1. World Health Organization. Influenza (Seasonal). https://www.who.int/news-room/fact-sheets/detail/influenza-(seasonal)

2. Centers for Disease Control and Prevention (CDC). Influenza (Flu). https://www.cdc.gov/flu/index.htm