النوم: نعمة حيوية للإنسان

النوم من المتع التي مُنحت للإنسان

يُعدّ النوم من أعمق النِّعم التي أنعم الله بها على الإنسان، وهو ليس مجرّد حالة من السكون الجسدي أو الغياب المؤقت عن الوعي، بل هو عملية بيولوجية معقّدة وأساسية تضمن للإنسان توازنه العقلي والجسدي والعاطفي. لقد خُلِق النوم ليكون راحةً للبدن، وشفاءً للنفس، وتجديداً للطاقة، ومتنفساً طبيعياً من صخب الحياة ومتطلباتها اليومية. فالإنسان، مهما بلغت قوته العقلية أو الجسدية، لا يستطيع الاستغناء عن النوم دون أن يدفع ثمناً باهظاً على مستوياتٍ متعددة.

النوم كحاجة بيولوجية لا غنى عنها

النوم ليس رفاهية كما قد يتصور البعض، بل هو وظيفة بيولوجية حيوية أساسية، كالتنفس والطعام والماء. فعندما ينام الإنسان، تدخل خلايا جسده في مرحلة من الترميم الذاتي، ويتخلص الدماغ من السموم العصبية التي تراكمت خلال ساعات اليقظة. وقد أثبتت الأبحاث العلمية أن النوم يساهم في تقوية الجهاز المناعي، وتنظيم مستويات الهرمونات، وتحسين الذاكرة، وزيادة القدرة على التركيز، وتعزيز الصحة النفسية.

الجسم البشري مبرمج فسيولوجياً للدخول في دورة نوم منتظمة تتوزع إلى مراحل متعددة، تشمل النوم الخفيف، والنوم العميق، وحركة العين السريعة (REM)، ولكل مرحلة دورها المهم في تعزيز الصحة. على سبيل المثال، أثناء مرحلة النوم العميق، تُفرز هرمونات النمو، وتُصلح الخلايا التالفة، ويستعيد الجهاز العصبي توازنه. أما مرحلة حركة العين السريعة، فترتبط بالأحلام وتعزيز الوظائف الإدراكية والذاكرة.

النوم كراحة نفسية وعاطفية

النوم ليس فقط علاجاً للجسد بل للنفس أيضاً، فحين يخلد الإنسان للنوم، ينفصل مؤقتاً عن الضغوط النفسية والتوترات اليومية التي تراكمت خلال النهار. كثير من حالات الاكتئاب والقلق تكون مرتبطة باضطرابات النوم، وحين يُعالج الخلل في النوم، تُشفى النفس أو تتحسن على الأقل. النوم الطبيعي والمتوازن يعيد للنفس توازنها ويمنح الإنسان القدرة على التحكم في عواطفه، وتقبّل الضغوط اليومية بصبر وهدوء.

وفي الثقافات القديمة، كان يُنظر إلى النوم كجسر بين العالم المادي والعالم الروحي، فالأحلام التي تأتي أثناء النوم لطالما كانت مصدر إلهام للفلاسفة، والشعراء، والعلماء. وفي القرآن الكريم، ذكر النوم في مواضع متعددة، منها قوله تعالى: “وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا” (النبأ: 9)، دلالة على أن النوم سُكنٌ وسُبات واستراحة ضرورية من ضجيج الحياة.

النوم ومتعة الانفصال المؤقت عن الواقع

من بين أعظم ما يمنحه النوم للإنسان هو ذلك الانفصال المؤقت عن الواقع، حيث يغلق العقل أبوابه أمام الضوضاء الخارجية، ويخفت وعي الإنسان عن صراعاته وأفكاره، ويدخل في عالم موازٍ، عالم بلا قوانين، بلا حدود، يتجول فيه بحرية من خلال الأحلام أو حتى اللاشيء. وهذا الانفصال بحد ذاته يُشكّل متعة خاصة، لأنها راحة ذهنية ونفسية عميقة لا يمكن الحصول عليها بأي وسيلة أخرى. النوم يحرّر الإنسان من أعباء التفكير المفرط، ودوائر القلق التي لا تنتهي، ويعيد له صفاءه الذهني الذي تآكل بفعل الضغوط المتزايدة.

النوم وتجديد الطاقة والإنتاجية

بعد نومٍ عميق وجيد، يستيقظ الإنسان وكأن جسده قد أُعيد تشغيله من جديد. مستويات التركيز تصبح أعلى، والقدرة على الإنجاز ترتفع، والمزاج يتحسن بشكل ملحوظ. ولهذا السبب، تهتم الشركات الحديثة والمتقدمة بجودة نوم موظفيها، وتوفر لهم برامج توعية بالنوم الصحي، بل إن بعض المؤسسات الكبرى خصصت غرف نوم داخل مقراتها لأنهم أدركوا أن النوم ليس هدراً للوقت بل استثمار في الطاقة البشرية.

وقد أظهرت الدراسات أن النوم الجيد يرتبط بزيادة الإنتاجية بنسبة تصل إلى 30% مقارنةً بأولئك الذين يعانون من اضطرابات في النوم. هذا يعود إلى أن النوم الجيد يعيد ترتيب الشبكات العصبية في الدماغ، ويجعل اتخاذ القرارات أكثر دقة، وردود الأفعال أسرع، وقدرة الدماغ على حلّ المشكلات أكثر فاعلية.

النوم من منظور ديني وثقافي

في التراث الإسلامي، يحظى النوم بمكانة خاصة، فهو ليس مجرد عادة بيولوجية، بل سلوك يُؤجر عليه الإنسان إذا التزم فيه بالآداب الشرعية. من السنة أن ينام الإنسان على طهارة، وعلى جانبه الأيمن، وأن يذكر الله قبل نومه، ويقرأ آيات معينة من القرآن الكريم، مثل آية الكرسي والمعوذات. وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أدعية للنوم، تدل على أن النوم يُنظر إليه كحالة شبه موت، واستعداد للبعث المؤقت عند الاستيقاظ، وهذا يظهر في قوله صلى الله عليه وسلم: “اللهم باسمك أموت وأحيا”.

وفي الثقافات الأخرى، أيضاً، كان النوم يُعامل كحالة من القُدسية؛ فقد كان الفراعنة يعتقدون أن النوم هو طريق للتواصل مع العالم الآخر، وكان الإغريق يقدّسون النوم ويعتبرونه بوابة للحكمة من خلال الأحلام.

اضطرابات النوم وغياب المتعة

رغم كل ما يحمله النوم من متعة وراحة، إلا أن الكثيرين محرومون منها بسبب اضطرابات النوم المختلفة، كالأرق، وتوقف التنفس أثناء النوم، ومتلازمة تململ الساقين، واضطرابات الساعة البيولوجية. وتُعدّ هذه الاضطرابات من أهم أسباب تراجع جودة الحياة، حيث تؤثر سلباً على الصحة الجسدية والنفسية.

الأرق المزمن، على سبيل المثال، قد يؤدي إلى الإصابة بأمراض مزمنة كارتفاع ضغط الدم، والسكري، واضطرابات القلب. كما أن الحرمان المزمن من النوم مرتبط بضعف المناعة، وتدهور الحالة المزاجية، وتراجع الأداء الوظيفي والمعرفي.

لذلك، فإن العناية بجودة النوم لا تقل أهمية عن النظام الغذائي أو ممارسة الرياضة. ويشمل ذلك الحفاظ على أوقات نوم واستيقاظ منتظمة، الابتعاد عن المنبهات قبل النوم، تجنب استخدام الشاشات الإلكترونية ليلاً، وتهيئة غرفة النوم بحيث تكون مظلمة وهادئة ومناسبة للنوم.

النوم في مراحل الحياة المختلفة

تختلف احتياجات النوم من عمر إلى آخر. فالأطفال حديثو الولادة يحتاجون إلى ما يقرب من 16 إلى 18 ساعة نوم يومياً، بينما يحتاج الأطفال في سن المدرسة إلى حوالي 9 إلى 11 ساعة. أما البالغون، فيكفيهم ما بين 7 إلى 9 ساعات، فيما قد تقل الحاجة تدريجياً مع التقدم في السن، دون أن يعني ذلك أن النوم لم يعد ضرورياً.

ومع التغيرات الهرمونية والنفسية التي تصاحب فترات معينة من الحياة، كالمراهقة أو الشيخوخة، قد تتغير أنماط النوم وجودته. فعلى سبيل المثال، يُلاحظ أن الكثير من كبار السن يعانون من صعوبة في النوم العميق، ويستيقظون مبكراً، ويأخذون قيلولة أثناء النهار لتعويض النقص.

النوم والقيلولة: استراحة قصيرة بمفعول طويل

القيلولة، التي لطالما كانت جزءاً من الثقافة الإسلامية والعربية، تبيّن اليوم أنها مفيدة للغاية إذا أُخذت بشكل صحيح. فالدراسات الحديثة تُشير إلى أن قيلولة قصيرة لا تتجاوز 20 إلى 30 دقيقة يمكن أن تُحسّن من الأداء الذهني والبدني بشكل ملحوظ. كما أن هذه القيلولة تساعد في خفض ضغط الدم، وتقليل مستويات التوتر، وتعزيز القدرة على الإبداع.

لكن القيلولة إن طالت أكثر من اللازم، قد تؤدي إلى اضطراب النوم الليلي. لذا، يُوصى بأخذها في وقت مبكر من بعد الظهر، ولمدة لا تتجاوز نصف ساعة.

جدول يوضح متوسط ساعات النوم الموصى بها حسب العمر:

خاتمة

النوم متعةٌ فطرية منحت للإنسان، تتجاوز بكثير مفهوم الراحة الجسدية إلى كونها عملية متكاملة من الشفاء والتجدد والراحة النفسية. إنه ضرورة بيولوجية وروحية، تؤثر في كل تفاصيل حياة الإنسان، من مزاجه وإنتاجيته، إلى صحته الجسدية والنفسية. ومن هذا المنطلق، فإن الحفاظ على جودة النوم، واحترام حاجات الجسد إليه، يُعد شكلاً من أشكال العناية الذاتية، والامتنان لنعمة عظيمة قلّ من يدرك عمقها الحقيقي.

المراجع:

1. Walker, M. (2017). Why We Sleep: Unlocking the Power of Sleep and Dreams.

2. National Sleep Foundation. (www.sleepfoundation.org)