يوم الكرامة: رمز الصمود والتضحية في التاريخ الأردني والعربي

يُعد يوم الكرامة من أبرز المحطات التاريخية في الوجدان الوطني الأردني والعربي، لما يحمله من دلالات عميقة ترتبط بالكرامة والسيادة الوطنية والانتصار على العدوان. يُصادف يوم الكرامة في 21 آذار من كل عام، وهو اليوم الذي وقعت فيه معركة الكرامة الخالدة عام 1968 بين الجيش العربي الأردني وقوات الاحتلال الإسرائيلي، بعد أقل من عام على نكسة حزيران 1967، وفي خضم حالة من الانكسار العربي آنذاك. كان هذا اليوم منعطفًا مفصليًا أثبت فيه الجيش الأردني أن الكرامة لا تُستباح، وأن المقاومة المسلحة المدعومة بعقيدة وطنية وإرادة حرة قادرة على إحداث تحول في ميزان الردع العسكري والسياسي في المنطقة.

خلفية تاريخية: السياق العام لما قبل المعركة

بعد نكسة حزيران 1967، والتي أدت إلى احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان، ساد الإحباط في العالم العربي، وتزعزعت ثقة الشعوب بجيوشها وحكوماتها. لكن الأردن، الذي خسر الضفة الغربية في تلك الحرب، بقي متماسكًا سياسيًا وعسكريًا، وبدأت القيادة الأردنية، وعلى رأسها الملك الحسين بن طلال، بإعادة بناء قدرات الجيش وتنظيمه. في المقابل، كانت إسرائيل تسعى لإثبات تفوقها العسكري من خلال توجيه ضربات استباقية للمقاومة الفلسطينية التي بدأت تتخذ من الأراضي الأردنية قواعد انطلاق، وبخاصة في منطقة الأغوار.

كان الهدف المعلن من الهجوم الإسرائيلي على بلدة الكرامة الأردنية هو ضرب قواعد الفدائيين الفلسطينيين، لكن الهدف الحقيقي كان إخضاع الأردن وإحباط أي محاولة عربية لاستعادة زمام المبادرة، كما كان يمثل اختبارًا لقدرة الجيش الأردني بعد النكسة.

المعركة: تفاصيل يوم الكرامة

في فجر 21 آذار 1968، شنت القوات الإسرائيلية هجومًا واسع النطاق على مناطق متعددة في غور الأردن، وركزت هجومها الرئيسي على بلدة الكرامة، باستخدام قوات مدرعة ومظلية وطائرات مقاتلة. بلغ عدد القوات الإسرائيلية المشاركة في العملية نحو 15,000 جندي، مدعومين بأكثر من 150 دبابة ومدرعة، وغطاء جوي مكثف.

في المقابل، كان الجيش الأردني مستعدًا ومتأهبًا، حيث وضعت القيادة العسكرية خطة محكمة لصد العدوان والدفاع عن السيادة الوطنية. بلغ عدد القوات الأردنية المشاركة نحو 5,000 جندي فقط، لكنهم كانوا يتحصنون في مواقع دفاعية جيدة، وامتلكوا معنويات عالية، وإصرارًا على رد العدوان.

بدأت المعركة بمواجهات مباشرة وشرسة، امتدت على مدى 16 ساعة، أظهر فيها الجنود الأردنيون شجاعة فائقة، حيث دمروا أكثر من 88 آلية عسكرية إسرائيلية، وأجبروا القوات المهاجمة على الانسحاب والتراجع إلى ما وراء نهر الأردن. كانت هذه أول مرة تُجبر فيها إسرائيل على الانسحاب من أرض عربية تحت ضربات جيش نظامي بعد حرب 1948، ما منح المعركة بُعدًا رمزيًا واستراتيجيًا فريدًا.

رمزية الانتصار: الدلالات والمعاني العميقة

تجسد معركة الكرامة مجموعة من القيم الوطنية والعربية، أبرزها:

• الكرامة الوطنية: أثبتت المعركة أن الشعب الأردني، بجيشه وقيادته، يرفض الذل والهزيمة، ويقاتل دفاعًا عن سيادته وكرامته، مهما كانت التضحيات.

• الرد على الهزيمة: جاءت المعركة بعد أشهر قليلة من نكسة حزيران، لتكسر حالة الإحباط واليأس، وتعيد الثقة بقدرة الجيوش العربية على المواجهة والانتصار.

• تلاحم الجيش والشعب: أظهرت المعركة وحدة الأردنيين، قيادةً وشعبًا وجيشًا، في مواجهة العدوان، كما ساهم الفدائيون الفلسطينيون إلى جانب الجيش الأردني في المقاومة.

• إعادة التوازن الإقليمي: على المستوى السياسي والعسكري، فرضت معركة الكرامة معادلة جديدة في الصراع العربي الإسرائيلي، ووضعت حدًا لفكرة أن الجيش الإسرائيلي لا يُقهر.

شهداء الكرامة: تخليد البطولة

سقط في معركة الكرامة عشرات الشهداء الأردنيين الذين قدموا أرواحهم دفاعًا عن الأرض والكرامة. ويُذكر من بينهم عدد من الضباط والجنود الذين أصبحوا رموزًا للتضحية والإقدام، وقد قامت الدولة الأردنية بتكريمهم، وأُقيمت لهم النصب التذكارية، كما خُلدت أسماؤهم في ذاكرة الوطن. بلغ عدد الشهداء الأردنيين في المعركة 86 شهيدًا، إضافة إلى أكثر من 100 جريح، في حين بلغت خسائر العدو أكثر من 250 بين قتيل وجريح.

الاحتفال بيوم الكرامة: طقوس وطنية سنوية

في كل عام، يحتفل الأردنيون في 21 آذار بيوم الكرامة، تخليدًا لهذه الذكرى الوطنية المجيدة. وتُقام بهذه المناسبة فعاليات رسمية وشعبية متعددة تشمل:

• العرض العسكري: تنظم القوات المسلحة الأردنية عرضًا عسكريًا تشارك فيه وحدات من مختلف صنوف الجيش، لتأكيد جاهزية القوات وحفاظها على الإرث البطولي.

• زيارة أضرحة الشهداء: يزور المواطنون وذوو الشهداء المقابر العسكرية لقراءة الفاتحة ووضع أكاليل الزهور، إكرامًا لمن ضحوا بأرواحهم من أجل الوطن.

• الندوات والفعاليات الثقافية: تُعقد ندوات ومحاضرات في المدارس والجامعات والمراكز الثقافية للتعريف بتفاصيل المعركة، وتعزيز الحس الوطني لدى الأجيال الجديدة.

• الإعلام الوطني: تقوم وسائل الإعلام الرسمية والخاصة بتسليط الضوء على المعركة، من خلال برامج وثائقية وتقارير إخبارية ومقابلات مع المحاربين القدامى.

الأثر العسكري والسياسي لمعركة الكرامة

كان لمعركة الكرامة تأثير كبير على المستويين العسكري والسياسي. فقد أعادت تشكيل العقيدة القتالية للجيش الأردني، وعززت من ثقة الجنود والقادة بقدراتهم، كما فرضت على العدو الإسرائيلي مراجعة استراتيجيته في التعامل مع دول الجوار. أما سياسيًا، فقد أدت المعركة إلى رفع مكانة الأردن في المحافل الدولية، حيث نالت القيادة الأردنية احترامًا كبيرًا، لما أظهرته من شجاعة وحكمة في إدارة الأزمة.

جدول خسائر المعركة من الجانبين

معركة الكرامة في الأدب والإعلام

تناولت معركة الكرامة العديد من الأقلام الأدبية والكتابات الصحفية، كما تم توثيقها في كتب ومراجع عسكرية وتاريخية أردنية وعربية. وتُعد روايات المحاربين القدامى ومذكراتهم من أهم المصادر التي تسلط الضوء على التفاصيل الدقيقة للمعركة. كذلك، أنتج التلفزيون الأردني عدة أفلام وثائقية تحاكي أحداث الكرامة، وتُعرض سنويًا في يوم الاحتفال بالذكرى.

معركة الكرامة كدراسة في القيادة العسكرية

مثلت الكرامة نموذجًا في فنون القيادة العسكرية، من حيث سرعة اتخاذ القرار، ودقة التنسيق بين الوحدات، واستغلال طبيعة الأرض لصالح القوات المدافعة. وقد أثبت القادة الميدانيون في الجيش العربي الأردني قدرتهم على إدارة المعركة رغم تفوق العدو العددي والناري. كما أن الملك الحسين، القائد الأعلى للقوات المسلحة آنذاك، لعب دورًا محوريًا في توجيه المعركة سياسيًا وعسكريًا، وأثبت أنه زعيم قادر على الدفاع عن وطنه بكل الوسائل الممكنة.

دور المقاومة الفلسطينية في المعركة

إلى جانب الجيش الأردني، شارك المقاتلون الفلسطينيون، خاصة الفدائيين التابعين لحركة فتح، في مقاومة العدو خلال معركة الكرامة، حيث خاضوا مواجهات بطولية في بلدة الكرامة وما حولها. وقد ساهمت المعركة في تعزيز مكانة العمل الفدائي، وأصبحت نقطة انطلاق جديدة للمقاومة الفلسطينية، التي ازدادت تنظيمًا وتسليحًا في السنوات التي تلت المعركة.

الدروس المستفادة من معركة الكرامة

أثبتت الكرامة أن الإرادة الوطنية أقوى من التفوق العسكري، وأن الالتفاف الشعبي حول القيادة وجيشها هو الأساس في مواجهة أي خطر خارجي. كما برهنت على أن النصر ممكن إذا ما توفرت العقيدة القتالية الصلبة، والخطط العسكرية المحكمة، والإدارة الحكيمة للمعارك. ولا تزال هذه الدروس حية في العقيدة العسكرية الأردنية حتى اليوم، حيث يُدرّس يوم الكرامة في الكليات العسكرية كأنموذج فريد في الدفاع والهجوم المضاد الناجح.

يوم الكرامة كرمز للهوية الأردنية

أصبح يوم الكرامة جزءًا من الهوية الوطنية الأردنية، ليس فقط لأنه يوم نصر عسكري، بل لأنه عبّر عن القيم الأساسية التي يتمسك بها الأردنيون: الكرامة، العزة، الوحدة، والوفاء للوطن. وقد ساعد الاحتفال بهذا اليوم في غرس هذه القيم في وجدان الأجيال المتعاقبة، وتحقيق تماسك اجتماعي يعزز منعة الدولة في وجه التحديات.

المصادر والمراجع

• مركز التوثيق الملكي الأردني الهاشمي: أرشيف معركة الكرامة.

• القوات المسلحة الأردنية – دائرة التوجيه المعنوي: النشرة السنوية الخاصة بيوم الكرامة.