انفصام الشخصية وأسبابه

عنوان المقال: انفصام الشخصية وأعراضه المعقدة

مقدمة

انفصام الشخصية أو الشيزوفرينيا هو اضطراب نفسي مزمن ومعقد يصيب الإنسان في أحد أهم أركانه الوجودية: الإدراك والواقع. يعاني المصابون بهذا الاضطراب من صعوبات جوهرية في التمييز بين الحقيقة والخيال، وغالبًا ما تتأثر أفكارهم ومشاعرهم وسلوكياتهم بصورة جذرية تؤثر على حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية والمهنية. يعتبر انفصام الشخصية من أكثر الاضطرابات النفسية التي أثارت الجدل العلمي والطبي، نظراً لتعدد مظاهره وتشابك أسبابه وغموض بنيته العصبية والبيولوجية.

ينبغي التمييز في البداية بين انفصام الشخصية واضطراب تعدد الشخصيات (الهوية الانشقاقية)، حيث كثيراً ما يُخلط بينهما في الثقافة العامة، في حين أن كل منهما حالة نفسية مستقلة ذات خصائص وتشخيصات علاجية مختلفة.

تعريف انفصام الشخصية

انفصام الشخصية هو اضطراب عقلي شديد يتميز بوجود تشوهات في طريقة التفكير والإدراك والسلوك. غالباً ما يشمل أعراضاً مثل الأوهام، الهلوسات، الكلام غير المنظم، والسلوك غير المنسق أو غير المناسب، إضافة إلى أعراض سالبة مثل التبلد العاطفي أو الانسحاب الاجتماعي. لا يعني الانفصام وجود أكثر من شخصية في نفس الجسد كما يتصور البعض، بل هو اضطراب في كيفية تفسير الشخص للعالم حوله.

التصنيف الطبي

يصنف انفصام الشخصية ضمن فئة “الذهانات” في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-5) التابع للجمعية الأمريكية للطب النفسي. ويعد من أكثر أشكال الذهان انتشاراً، ويظهر عادة في أواخر مرحلة المراهقة أو أوائل سن الرشد، مع ميل أعلى للظهور المبكر لدى الذكور.

الأعراض الرئيسية

تُقسم أعراض انفصام الشخصية إلى ثلاث مجموعات رئيسية:

أولاً: الأعراض الإيجابية (Positive Symptoms)

هي الأعراض التي تُضاف إلى الوظائف النفسية الطبيعية للفرد:

• الهلوسات: وخاصة السمعية، حيث يسمع المصاب أصواتاً غير موجودة تأمره أو تحاوره أو تنتقده.

• الأوهام: معتقدات خاطئة وثابتة، مثل الاعتقاد بأن شخصاً ما يراقبه أو أن هناك مؤامرة ضده.

• التفكير غير المنظم: صعوبة في تنظيم الأفكار والتعبير عنها، مما يؤدي إلى كلام غير مترابط وغير مفهوم في بعض الأحيان.

• السلوك الغريب أو غير المتوقع: مثل الضحك في مواقف غير مناسبة، أو اتخاذ وضعيات جسدية غريبة.

ثانياً: الأعراض السالبة (Negative Symptoms)

هي الأعراض التي تمثل نقصاً أو فقداناً في القدرات الطبيعية:

• التبلد العاطفي: فقدان القدرة على التعبير عن المشاعر أو الاستجابة العاطفية.

• الانعزال الاجتماعي: ضعف أو فقدان الاهتمام بالتفاعل الاجتماعي أو العلاقات الإنسانية.

• فقر الكلام: قلة الحديث أو الردود البسيطة وغير المفصلة.

• انخفاض الإرادة: فقدان الحافز أو الرغبة في الانخراط في النشاطات اليومية.

ثالثاً: الأعراض الإدراكية (Cognitive Symptoms)

تؤثر على عمليات التفكير والذاكرة والانتباه:

• ضعف في الذاكرة العاملة.

• صعوبة في التركيز والتخطيط.

• عدم القدرة على اتخاذ قرارات بسيطة أو فهم المعلومات الجديدة.

الأسباب والعوامل المؤثرة

لا يوجد سبب وحيد مؤكد لانفصام الشخصية، بل هو نتيجة تفاعل معقد بين العوامل البيولوجية والوراثية والبيئية والنفسية.

1. العوامل الوراثية

تلعب الوراثة دورًا ملحوظًا، حيث تزيد فرصة الإصابة إذا كان أحد الأقارب من الدرجة الأولى مصابًا. لكن العامل الوراثي وحده لا يكفي للإصابة.

2. الاختلالات الكيميائية في الدماغ

يرتبط انفصام الشخصية بخلل في النواقل العصبية، وخاصة الدوبامين والغلوتامات، وهما عنصران أساسيان في تنظيم الإدراك والسلوك.

3. الاضطرابات البنيوية في الدماغ

أظهرت دراسات التصوير بالرنين المغناطيسي وجود تغيرات في تركيب وحجم بعض مناطق الدماغ مثل الفص الجبهي والحُصين.

4. العوامل البيئية والنفسية

تشمل مضاعفات الحمل أو الولادة، التعرض للفيروسات، الصدمات النفسية المبكرة، والإجهاد الشديد خلال الطفولة أو المراهقة.

التشخيص

يعتمد التشخيص على التقييم الإكلينيكي من قبل طبيب نفسي مؤهل، ويستند إلى معايير محددة تشمل وجود أعراض محددة لمدة لا تقل عن ستة أشهر، مع تأثير واضح على الأداء الاجتماعي أو المهني.

لا توجد فحوصات دم أو تصوير دماغي يمكنها بمفردها تأكيد التشخيص، بل تُستخدم هذه الوسائل لاستبعاد اضطرابات عضوية مشابهة.

أنواع انفصام الشخصية (حسب السمات السائدة)

رغم أن الدليل التشخيصي DSM-5 ألغى التصنيفات الفرعية السابقة، فإن الأطباء والمراجع لا تزال تشير إليها لفهم تنوع الأعراض، وهي:

المضاعفات

إذا لم يُعالج انفصام الشخصية بشكل فعال، فإنه قد يؤدي إلى مضاعفات شديدة تطال الفرد والمجتمع، منها:

• الانتحار: نسبة مرتفعة من المصابين تحاول الانتحار خاصة في السنوات الأولى من الإصابة.

• الإدمان: ارتفاع معدلات تعاطي الكحول أو المخدرات كمحاولة للتعامل مع الأعراض.

• البطالة والتشرد: نتيجة لضعف الأداء الاجتماعي والمهني.

• العنف أو التصرفات الخطرة: خاصة إذا لم تتم إدارة الأعراض الهلوسية والضلالات.

العلاج

يعتمد علاج انفصام الشخصية على نهج متعدد المحاور، يجمع بين العلاج الدوائي، النفسي، الاجتماعي، وإعادة التأهيل.

1. العلاج الدوائي

يعتمد بشكل رئيسي على مضادات الذهان، وتنقسم إلى:

• مضادات الذهان التقليدية (الجيل الأول): مثل هالوبيريدول، تُستخدم للسيطرة على الأعراض الإيجابية.

• مضادات الذهان غير التقليدية (الجيل الثاني): مثل أولانزابين وريسبيريدون، تُعد أكثر فعالية مع أعراض أقل جانبية.

2. العلاج النفسي

• العلاج المعرفي السلوكي (CBT): يساعد على إدراك وتعديل الأفكار غير الواقعية.

• العلاج النفسي الداعم: يقدم الدعم العاطفي ويساعد على تطوير مهارات التأقلم.

• العلاج الأسري: يهدف إلى تدريب أفراد الأسرة على التعامل مع المصاب وتقليل الانتكاسات.

3. إعادة التأهيل والدمج الاجتماعي

• برامج تدريب مهني.

• دعم التعليم والعمل.

• بناء مهارات الحياة اليومية.

التعايش مع المرض

رغم أن انفصام الشخصية لا يُشفى بشكل نهائي في معظم الحالات، فإن العديد من المرضى يستطيعون العيش باستقلالية نسبية إذا تم توفير العلاج والرعاية المناسبة. يعتمد النجاح في التعايش على:

• الالتزام بالعلاج الدوائي.

• الدعم الأسري والمجتمعي.

• تجنب العزلة والإجهاد الشديد.

• المتابعة الدورية مع الفريق العلاجي.

الخاتمة

انفصام الشخصية هو اضطراب نفسي بالغ التعقيد، تتشابك فيه العوامل البيولوجية والبيئية والوراثية. ورغم التحديات الكبيرة التي يفرضها هذا المرض على الفرد والأسرة والمجتمع، فإن التقدم العلمي في الطب النفسي والعلاج النفسي والاجتماعي قد مكّن من تحسين جودة حياة المرضى بشكل ملموس. إن التعامل مع المرض بروح من الفهم العلمي والاحتواء الإنساني هو السبيل الأنجع لتقليل معاناة المصابين وتقديم فرصة حقيقية للشفاء أو الاستقرار النفسي والاجتماعي.

المراجع:

1. American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders, Fifth Edition (DSM-5).

2. World Health Organization. (2022). Schizophrenia Fact Sheet.