5 أمور يندم عليها الأهل في تعاملهم مع أبنائهم
تربية الأبناء من أعمق التجارب الإنسانية وأكثرها حساسية وتعقيدًا، فهي ليست مجرد عملية نقل للقيم والمفاهيم، بل هي ممارسة يومية تتطلب وعيًا نفسيًا واجتماعيًا متناميًا، وتنبني على قرارات تؤثر على حاضر الطفل ومستقبله على حد سواء. ولعل ما يزيد من ثقل هذه المسؤولية أن آثار الأخطاء التربوية لا تتوقف عند اللحظة، بل تمتد إلى سلوكيات الأطفال وشخصياتهم وحتى مصائرهم. وفي غمرة هذه المهمة الشاقة، قد يقع الأهل في ممارسات وسلوكيات يظنونها صائبة في حينها، ولكن سرعان ما يكتشفون بعد سنوات أنها كانت من بين أكثر الأمور التي يندمون عليها.
الندم التربوي لا ينبع فقط من الشعور بالتقصير، بل من الإحساس بأن هناك فرصًا ضاعت، وأن هناك طرقًا كانت ستؤدي إلى نتائج أفضل لو تم اتباعها. في هذا المقال، نسلط الضوء على خمس ممارسات يندم عليها كثير من الآباء والأمهات بعد فوات الأوان، مستندين إلى الأدبيات النفسية والتربوية، وتجارب الحياة الواقعية.
1. التقصير في التعبير عن الحب والدعم العاطفي
من أكثر الأمور التي يندم عليها الأهل لاحقًا هو عدم إظهار الحب الكافي لأبنائهم. هناك اعتقاد سائد لدى بعض الأسر أن توفير الحاجات المادية والتعليمية كافٍ لتنشئة طفل سوي، في حين أن الطفل يحتاج بشكل جوهري إلى الحنان والاحتضان والتواصل الوجداني. وقد أظهرت دراسات علم النفس التنموي أن الطفل الذي لا يتلقى دعمًا عاطفيًا كافيًا في سنواته الأولى يُصاب لاحقًا بعدم الأمان النفسي وصعوبات في بناء علاقات مستقرة.
التعبير عن الحب لا يقتصر على الكلمات، بل يشمل الأفعال اليومية الصغيرة، كالإصغاء الجيد، والاحتضان، ومشاركة المشاعر. الأهل الذين ينشغلون بالماديات أو يعتقدون أن الصرامة هي الطريق الأفضل لتربية أطفال أقوياء، قد يصابون لاحقًا بصدمة حين يرون أبناءهم وقد نشأوا بمنظومة عاطفية جافة أو يعانون من القلق الاجتماعي وانعدام الثقة بالنفس.
2. ممارسة التسلط وكبت شخصية الطفل
يميل بعض الأهل إلى تبني نموذج سلطوي في التربية، يقوم على الطاعة المطلقة ومنع النقاش، وفي أحيان كثيرة يتضمن ذلك اللجوء إلى العقاب المفرط، سواء النفسي أو الجسدي. يعتقد هؤلاء أنهم بهذه الطريقة يصنعون طفلًا مهذبًا ومطيعًا، ولكنهم في الواقع يقمعون شخصية الطفل ويزرعون فيه الخوف والشك في النفس.
الندم هنا يأتي في مرحلة لاحقة، حين يلاحظ الأهل أن أبناءهم قد فقدوا القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة، أو يعانون من ضعف الشخصية، أو أسوأ من ذلك، حين ينقطع التواصل تمامًا بينهم وبين أبنائهم بسبب تراكمات نفسية طويلة المدى. ومن المؤلم أن يدرك الأهل متأخرين أنهم زرعوا الخوف بدلًا من الاحترام، والامتثال بدلًا من الحوار.
3. عدم قضاء وقت كافٍ مع الأبناء في الطفولة
الزمن لا يُعاد، وهذه واحدة من الحقائق التي تؤلم الكثير من الآباء لاحقًا في حياتهم. ينشغل الأهل في كثير من الأحيان بالعمل، أو في تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، ويبررون غيابهم عن حياة أبنائهم اليومية برغبتهم في “تأمين المستقبل”. غير أن الأطفال لا يدركون هذه النوايا، فهم في تلك المرحلة لا يحتاجون إلى المال أو الهدايا بقدر حاجتهم إلى وجود حقيقي وحميم مع والديهم.
غياب الأهل في مرحلة الطفولة يحرم الأبناء من أساسيات التكوين النفسي والاجتماعي، ويترك فراغًا عاطفيًا قد لا يُملأ أبدًا. وكثيرًا ما يتأسف الآباء حين يبلغ أبناؤهم سن الرشد، ويكتشفون أن العلاقة التي تجمعهم فاترة أو سطحية، وأن الروابط الإنسانية التي كان يمكن أن تُبنى في سنوات الطفولة قد ضاعت بسبب الغياب المتكرر.
4. المقارنة بين الأبناء أو مع الآخرين
من أكثر الممارسات التربوية ضررًا على نفسية الطفل هي المقارنة، سواء بين الإخوة أو مع أقرانهم. حين يُقارن الطفل بأخيه “الأذكى” أو بابن الجيران “الأكثر تهذيبًا”، يتلقى رسالة مفادها أنه غير كافٍ، وأن قيمته تقاس بمدى تفوقه على غيره، وليس بكونه شخصًا فريدًا له خصائصه المميزة.
هذه المقارنات تحطم احترام الذات وتؤسس لشعور دائم بالنقص والدونية. كما أنها تخلق توترًا دائمًا بين الإخوة، وتدمر الثقة بينهم وبين الأهل. كثير من الآباء يعترفون لاحقًا أنهم لم يكونوا يقصدون الأذى، ولكنهم لم يدركوا أن الكلمات البسيطة التي ظنوا أنها “تحفيز” كانت في الواقع تُحدث جروحًا نفسية غائرة يصعب ترميمها.
5. إهمال الإصغاء لرغبات الأبناء وأحلامهم
الطفل كائن متجدد الأحلام، يملك آراءً وتصورات وطموحات قد تكون غير ناضجة ولكنها حقيقية ومهمة في تشكيل شخصيته. الأهل الذين يهمشون آراء أبنائهم أو يفرضون عليهم اختياراتهم الحياتية — سواء في الدراسة أو في الهوايات أو في نمط الحياة — يساهمون في بناء إنسان مشوش الهوية، يعيش حياته لإرضاء الآخرين بدلًا من تحقيق ذاته.
يندم الكثير من الأهل حين يدركون أن أبناءهم عاشوا سنوات طويلة وهم يسيرون في مسارات لا يحبونها، فقط لأنهم أرادوا تلبية طموحات أهلهم. الأسف يزداد حين يُلاحظ أن هؤلاء الأبناء فقدوا شغفهم، أو عانوا من اضطرابات نفسية بسبب عدم توافق حياتهم مع ميولهم الداخلية. الإهمال هنا ليس تقصيرًا ظاهريًا، بل هو إلغاء لصوت الطفل وحقه في أن يكون نفسه.
الجدول: مقارنة بين النمط التربوي وأثره المتوقع على الطفل
| النمط التربوي | السلوك الوالدي | الأثر النفسي على الطفل |
|---|---|---|
| داعم ومحاور | تواصل عاطفي، استماع، تعزيز | نمو صحي للهوية، احترام الذات، ثقة بالنفس |
| سلطوي ومتسلط | أوامر صارمة، عقاب، قمع | خوف، تبعية، انعدام الثقة، ضعف الشخصية |
| غائب أو مشغول باستمرار | قلة تفاعل، غياب عاطفي | شعور بالوحدة، نقص الحنان، فجوة تواصل |
| مقارن ومحبط | مقارنة دائمة، انتقاد متكرر | مشاعر نقص، غيرة، توتر، ضعف تقدير الذات |
| موجه ومسيطر على الاختيارات | فرض توجهات معينة | كبت الطموح، تشوش الهوية، قلة الشغف |
خلاصة
التجربة التربوية، برغم نبلها وعمقها، لا تخلو من التعقيدات والمزالق، وليس هناك من والد أو والدة لا يخطئان. لكن ما يميّز الأهل الواعين هو إدراكهم المستمر لتأثير أفعالهم، وسعيهم إلى مراجعة أنفسهم وتدارك الأخطاء قبل أن تترسخ. فكل كلمة، كل فعل، وكل قرار يتخذه الأهل في تربية أبنائهم، هو لبنة في بناء شخصياتهم وهوياتهم المستقبلية. والتربية، في جوهرها، هي رحلة طويلة تبدأ بالحب، وتنضج بالوعي، وتُتوّج بالندم الإيجابي الذي يدفع إلى التطور لا إلى جلد الذات.
المراجع:
-
Siegel, D. J., & Bryson, T. P. (2012). The Whole-Brain Child: 12 Revolutionary Strategies to Nurture Your Child’s Developing Mind. Random House.
-
Baumrind, D. (1991). The Influence of Parenting Style on Adolescent Competence and Substance Use. Journal of Early Adolescence, 11(1), 56–95.
