مفهوم أحلام اليقظة المفرطة

أحلام اليقظة المفرطة (بالإنجليزية: Maladaptive Daydreaming) هي حالة نفسية تتميز بانغماس الفرد في عوالم خيالية داخلية بشكل مكثف ومستمر، بحيث تتحول تلك الأحلام النهارية إلى نشاط ذهني مفرط يؤثر سلباً على حياته اليومية وقدرته على التفاعل مع الواقع. هذا النوع من أحلام اليقظة يختلف عن الأحلام العادية أو التخيلات العابرة التي قد يمر بها أي شخص، إذ يتميز بالعمق الشديد والاتساع في التفاصيل، وكذلك بارتباطه أحياناً بمشاعر وأحاسيس قوية قد تجعله يشكل هروباً نفسياً من الضغوطات أو المشكلات الحياتية.

نشأة مفهوم أحلام اليقظة المفرطة

ظهر مصطلح “أحلام اليقظة المفرطة” لأول مرة في أواخر العقد الأول من القرن الواحد والعشرين من خلال الباحث الإسرائيلي إلينور مور، التي لاحظت نمطاً معيناً من الأحلام النهارية المفرطة لدى مجموعة من الأفراد خلال دراساتها النفسية. وقد أشارت إلى أن هؤلاء الأشخاص لا يقتصرون على التخيل العابر أو التمني، بل يخوضون تجارب داخلية غنية ومعقدة جداً، تشمل قصصاً وشخصيات ومشاهد متكررة، مما يؤثر على تركيزهم وأدائهم في الأنشطة الحياتية الاعتيادية.

مع مرور الوقت، بدأ الباحثون في التعمق في دراسة هذه الظاهرة لفهم أسبابها وتأثيراتها على الصحة النفسية، حيث تبين أنها قد تترافق مع اضطرابات أخرى مثل القلق، الاكتئاب، واضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD)، كما قد تؤدي إلى تدهور الأداء الاجتماعي والمهني.

طبيعة أحلام اليقظة المفرطة

أحلام اليقظة المفرطة ليست مجرد لحظات من التفكير أو التخيل، بل هي عمليات ذهنية معقدة تتميز بعدة خصائص رئيسية منها:

• الانغماس الكامل: الشخص يكون غارقاً في خياله بحيث يفقد وعيه بالبيئة المحيطة لفترات طويلة.

• الاستمرارية والتكرار: الأحلام أو القصص التي تتكرر في أذهانهم مع بعض التعديلات والتطورات.

• التفصيل المفرط: تحتوي على تفاصيل دقيقة في المشاهد، الشخصيات، وحتى الحوارات.

• الإثارة العاطفية: قد ترافق هذه الأحلام مشاعر قوية مثل الفرح، الحزن، الغضب، أو الإثارة.

• الاختيار الإرادي: رغم أن بعض لحظات الأحلام تكون تلقائية، فإن الكثير منها يتم تحفيزه بقصد الهروب أو الترفيه عن النفس.

غالباً ما يصف المصابون بأن أحلام اليقظة لديهم تشبه عالماً بديلاً يتجاوز الواقع، وقد يصبحون مدمنين على هذه الحالة لأنها تمنحهم نوعاً من الراحة النفسية المؤقتة، خاصة إذا كانت حياتهم الواقعية مليئة بالتحديات أو الضغوط.

أسباب وأصول أحلام اليقظة المفرطة

لم تُحدد الأسباب الدقيقة وراء ظهور أحلام اليقظة المفرطة بشكل قاطع، ولكن الدراسات أشارت إلى مجموعة من العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية التي قد تساهم في ظهور هذه الحالة:

العوامل النفسية

• التعرض للضغوط النفسية: قد يلجأ البعض إلى الأحلام النهارية المكثفة كطريقة للهروب من الواقع المجهد، مثل المشاكل الأسرية، أو ضغوط العمل، أو صعوبات اجتماعية.

• الاضطرابات النفسية المصاحبة: مثل القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، حيث يكون الخيال المفرط تعويضاً عن الألم النفسي أو صدمة نفسية.

• التوحد واضطراب نقص الانتباه: هناك دلائل على أن الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات مثل اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط أو طيف التوحد قد يكونون أكثر عرضة لأحلام اليقظة المفرطة، بسبب ميلهم للانغماس في عوالم خيالية لتعويض صعوبات التفاعل الاجتماعي.

العوامل العصبية والبيولوجية

تشير بعض الأبحاث إلى أن التغيرات في بعض مناطق الدماغ المسؤولة عن التحكم في الانتباه وتنظيم الأحاسيس قد تلعب دوراً في ظهور هذه الحالة، مثل ضعف في قدرة الدماغ على الفصل بين الواقع والخيال، أو اضطراب في عمليات التحكم التنفيذي للدماغ.

العوامل الاجتماعية

• العزلة الاجتماعية: غالباً ما يكون الأشخاص الذين يعانون من أحلام اليقظة المفرطة معزولين اجتماعياً أو يشعرون بعدم الانتماء، مما يجعلهم يلجأون إلى عالم خيالي يوفر لهم الراحة والانسجام.

• الافتقار إلى الدعم الاجتماعي: نقص الدعم الأسري أو الاجتماعي قد يزيد من الاعتماد على الأحلام كملاذ نفسي.

أعراض وتأثيرات أحلام اليقظة المفرطة

يتمثل الأثر الأساسي لأحلام اليقظة المفرطة في تعطيل الوظائف اليومية، وتشمل الأعراض:

• انشغال ذهني مستمر بالأحلام النهارية.

• صعوبة في التركيز على المهام اليومية أو الدراسة أو العمل.

• الشعور بالإرهاق الذهني بعد فترات طويلة من الانغماس في الأحلام.

• تراجع في الأداء الاجتماعي نتيجة لتفضيل العزلة والانشغال بالخيال.

• اضطرابات في النوم بسبب استمرار الأفكار الخيالية حتى أثناء الليل.

• الشعور بالذنب أو الإحباط بسبب عدم القدرة على التحكم في هذه الأحلام.

هذه الأعراض قد تتفاوت في شدتها من شخص لآخر، وفي بعض الحالات تصل إلى درجة تؤثر بشكل كبير على جودة الحياة، مما يستدعي التدخل العلاجي.

التشخيص

لا توجد حتى الآن معايير رسمية في الدليل التشخيصي للاضطرابات النفسية (DSM-5) لأحلام اليقظة المفرطة، لكنها تُشخص عادة بناءً على مقابلات نفسية معمقة وتقييم السلوك والأعراض التي تظهر على الشخص. وتستخدم بعض الأدوات والمقاييس النفسية لتحديد مدى انغماس الفرد في الأحلام وتأثير ذلك على حياته.

العلاج

يهدف علاج أحلام اليقظة المفرطة إلى تقليل الوقت الذي يقضيه الفرد في الأحلام النهارية، وتحسين قدرته على التركيز والتفاعل مع الواقع. يشمل العلاج:

العلاج النفسي السلوكي المعرفي (CBT)

يعتمد هذا العلاج على تعديل الأفكار والسلوكيات التي تدعم الأحلام النهارية المفرطة، من خلال:

• تعليم المريض تقنيات التحكم في الانتباه.

• مواجهة المواقف التي تحفز الأحلام.

• تطوير استراتيجيات بديلة للهروب النفسي.

العلاج الدوائي

لا توجد أدوية مخصصة لعلاج أحلام اليقظة المفرطة، لكن بعض الأدوية المضادة للقلق أو الاكتئاب قد تساعد في تقليل الأعراض إذا كانت مصاحبة لاضطرابات نفسية أخرى.

التدخلات السلوكية

• تنظيم الوقت والأنشطة اليومية.

• تحسين نمط النوم.

• ممارسة الرياضة والأنشطة الاجتماعية لتعزيز التواصل الواقعي.

الدعم الاجتماعي

تشجيع المريض على الانخراط في مجموعات دعم أو أنشطة اجتماعية يمكن أن يحد من الشعور بالعزلة ويقلل من الحاجة إلى الهروب عبر الأحلام.

الفرق بين أحلام اليقظة العادية والمفرطة

لكي نميز بين الأحلام النهارية العادية وأحلام اليقظة المفرطة، يمكن النظر إلى الفروق التالية:

تطور الحالة ونتائجها

إذا لم يتم التعامل مع أحلام اليقظة المفرطة بشكل مناسب، فقد تتطور الحالة إلى ما يشبه الاعتماد النفسي على الخيال، مع زيادة في العزلة الاجتماعية وتدهور في الصحة النفسية. كما يمكن أن تتفاقم أعراض القلق والاكتئاب، مما يضاعف المعاناة ويزيد من صعوبة العلاج.

مع العلاج المناسب، يمكن للفرد استعادة توازنه النفسي وتحسين نوعية حياته بشكل ملحوظ، خاصة مع دعم الأسرة والمجتمع.

الخلاصة

أحلام اليقظة المفرطة حالة نفسية معقدة تتطلب فهماً عميقاً ومتابعة دقيقة، لأنها تمثل نوعاً من الهروب الذهني الذي قد يتحول إلى عبء يؤثر على حياة الفرد بشكل كبير. التداخل بين العوامل النفسية، العصبية، والاجتماعية يجعل التشخيص والعلاج تحدياً يتطلب مقاربة متعددة الأبعاد تجمع بين العلاج النفسي والدعم الاجتماعي.

مع ازدياد الوعي بهذه الحالة وظهور الدراسات العلمية، أصبح من الممكن تقديم حلول تساعد المصابين على التحكم في أحلامهم وتقليل تأثيرها السلبي، مما يفتح الطريق أمام حياة أكثر توازناً وواقعية.

المراجع:

1. Bigelsen, J., & Schupak, C. (2011). Maladaptive daydreaming: Proposed diagnostic criteria and characterization. Consciousness and Cognition, 20(4), 1639-1650.

2. Somer, E. (2002). Maladaptive daydreaming: A qualitative inquiry. Journal of Nervous and Mental Disease, 190(9), 624-631.